الفساد في لبنان .. واقعه وجذوره ( 10 ) – الراصد العربي

الفساد في لبنان .. واقعه وجذوره ( 10 )

ترافق وصول الرئيس الراحل رفيق الحريري الى رئاسة الحكومة في أواخر العام 1992 ، مع المحادثات النشطة بين منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل ” برعاية أميركية في أوسلو والتي سُمّيت “اتفاقية إعلان المبادئ-أوسلو ” ، وهي اتفاق سياسي وقّعته، بحضور دولي، منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني” مع إسرائيل يوم 13 سبتمبر/أيلول 1993. ووقع الاتفاقية في البيت الأبيض الأميركي عن الجانب الإسرائيلي رئيس الوزراء حينذاك إسحق رابين، وعن الجانب الفلسطيني الرئيس الراحل ياسر عرفات.

وهكذا اعتقد البعض ان السلام مع ” الكيان العبري ” قادم ، وطرحت المشاريع على هذا الأساس في البلد ، وسريعا تحققت نبوءة فؤاد السنيورة اننا ” سنفوت بالقزاز ” ، وفي التفاصيل كما يروي أحمد طباره في كتابه “محطات” أنه في نيسان 1994 فوجئ في أحد أروقة المقر الرئاسي المؤقت في الرملة البيضاء، بالرئيس الشهيد رفيق الحريري يتجاذب الحديث مع فؤاد السنيورة بأنس وراحة وعلامات الارتياح بادية على وجهيهما، ويقول: “تابعت طريقي بعد أن ألقيت التحية حتى لا أقطع عليهما الحديث وحفاظاً على أدب التلاقي العرضي.

مررت إذاً وابتعدت عنهما بضعة أمتار وإذا بي أُفاجأ بالرئيس الشهيد يناديني “شو يا أحمد شو الأخبار”.

وبعفوية وصدق ومحبة قلت له: والله يا دولة الرئيس أريد أن انقل لك ما قاله الي والدي قبل وفاته.

أجابني: خير إن شاء الله ماذا قال لك؟ أجبته: قال لي انتبه يا بني “اليهود بيحفروا بير بالإبرة بينما نحن العرب نتفاعل بمفهوم الصدمة نزعل لأي سبب ونُسترضى ببوسة لحى”.

أجابني: ماذا تعني؟ قلت: يا دولة الرئيس من قال لك إن اسرائيل تريد السلام .. أتصدق أنهم أهل سلام؟ ألم ترَ ما فعلوا بما بنيته في كفرفالوس … لا يا دولة الرئيس إن اسرائيل مجتمع حرب … يعيش على الحرب، وهم مجموعة مرتزقة عملُها ضربنا كلما شممنا رائحة إبطنا … رويداً رويداً يا دولة الرئيس، أتؤمن حقاً أنهم يريدون السلام…

نظر إليَّ بعينين فيهما تساؤل واستغراب …

قناعة وتعجب .. تفهم واستفهام .. ألم ورفض … قبول ومرارة …

عندها سمحت لنفسي بالاستطراد فقلت: وماذا إن افتعلوا حرباً وحطموا ما تقوم به .. أليس التروي بالاستدانة أنفع من تصديقهم؟

لم يجبني .. نظر إليَّ بعينين فيهما كل شيء .. نعم كل شيء ومن دون ان يجيب فتح باب الشرفة وخرج.

لم يبق أمامي إلا الأخ العزيز دولة الرئيس فؤاد السنيورة … وبمفهوم الأخوة ومعرفتي به منذ الطفولة قلت له: شو يا فؤاد .. وين منصير إذا ما في سلام؟

أجابني أطال الله عمره: “منفوت بالقزاز”.

وهكذا ،منذ أواخر العام 1992، بدأت مسيرة ما بعد “الطائف” التي تميزت باتساع المديونية العامة والمشاريع الكبرى من دون وضع أي دراسة عن الجدوى الاقتصادية وبأكلاف مضاعفة، ومثال على هذه العقلية ما أورده الوزير الأسبق هنري إده في كتابه “المال إن حكم” فيقول: “منذ سنة 1991، طلب رفيق الحريري إلى دار الهندسة وإلى “بيشتيل” Bechtel القيام بدراسة اقتصادية، في حين يُهيئ قدومه إلى إدارة البلاد، كان المطلوب إعداد جدول بالحاجات الاكثر إلحاحاً، ولائحة بمشاريع الإعمار والإنماء مع جدول زمني للبدء بها، وتقدير كلفتها واقتراح موارد تمويلها، وروزنامة لتسديد الديون المرتقبة، اشرف على هذه الدراسة روبير صولومون الاقتصادي الانكليزي القدير المنتسب إلى دار الهندسة، وجاء ليقدم إلى الرئيس الحريري نتيجة أبحاثه الطويلة والمقترحات التي ارتآها، هو وفريق عمله، في ثلاثين كتيباً من التقارير والبرامج القطاعية إلا أنه لم يكد ينهي عرضه التمهيدي، حتى قاطعه الحريري قائلاً: “أنت كما فهمت من كلامك تقترح عليّ مخططاً بمليار ونصف مليار دولار للسنتين الأوليين، ومليارين ونصف للسنوات الثلاث اللاحقة، هل هذه فكرتك؟”.

أجاب صولمون: نعم سيدي الرئيس على افتراض مسيرة انمائية متسارعة، وحجم مساعدة عالمية إيجابية.

قل لي، يا صديقي، هل سمعتني أطلب إليك تحديد المبالغ أو مهل الانجاز قال الحريري؟ طبعاً لا، إذن أرجو أن تعدل اقتراحاتك، وتعد لي خطة عشرية من اثني عشر مليار دولار على الأقل، أما التمويل فسأنجح في الحصول عليه، وطرق التمويل سنعثر عليها في فائض الموازنة ابتداءً من الدورة الثالثة، وفي الأرباح التي ستحققها مؤسسات الكهرباء والاتصالات التي سنكون قد انجزنا إعادة تأهيليها” وهو تصريح استعاده حرفياً أمام مجلس النواب، في حكومته الأولى.

حين عاد صولومون مع زملائه من الاجتماع بدا على سحنته البريطانية أثر الصدمة، فالصيغتان المختلفتان اللتان أعدهما، بدقة، للنهوض والنمو على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مع المتغيرات المتعددة لكل منها، وتبرير سلم الأولويات ومصادر التمويل وطرق التسديد، وأكثر من عشرين دراسة قطاعية، مسحها الرئيس الحريري بقفا يده، ولم يبق لصاحبنا أي احتمال سوى طاعة الأوامر”.

وللدلالة على المأساة التي يعيشها اللبنانييون اليوم، والكارثة التي وصلوا إليها نشير إلى أن أرقام الدين عند الفصل الأخير من سنة 1992 ، عندما تولى الرئيس الراحل رفيق الحريري رئاسة الحكومة، لم يكن الدين العام قد تجاوز مليار و700 مليون دولار أي أنها في خلال خمس سنوات تضاعفت بنحو نسبة ألف بالمئة.

ويروي لي نائب سابق عن دائرة بعبدا أن سياسياً لبنانياً جاءه في أواخر عام 1992، قرض من بنك بريطاني محول على أحد المصارف اللبنانية الذي دمج لاحقاً مع بنك آخر، بقيمة 80 مليون دولار بفائدة 2 بالمئة.

سحب السياسي المبلغ وحوله إلى ليرة لبنانية التي كان سعر صرفها آنئذ 2800 ليرة لكل دولار، ووظفها في سندات الخزينة التي كانت فائدتها 45 بالمئة، وفي خلال أيام قليلة تراجع سعر صرف الدولار ليستقر على 1500 ليرة، أي أنه ربح بالفائدة 43 بالمئة، وربح في كل دولار 1300 ليرة، أي أنه ربح تلقائياً نحو 69 مليون و335 ألف دولار، وربح بالفائدة نحو 34 مليون و400 ألف دولار، ويكون معدل ما ربحه في أيام قليلة جداً، نحو 97 مليون و735 ألف دولار، أي ببساطة فإن مبلغ الـ80 مليون دولار أصبح في أيام معدودات نحو 177 مليون و735 ألف دولار.. فكم من رجال الطبقة السياسية التي تناوبت على المسؤولية والنيابة ما بعد الطائف قد أثروا واكتنزوا الثروات على هذه الطريقة الجهنمية؟!.

والخلاصة، أنّ الدين العام في لبنان كان حتى مطلع التسعينات بمعظمه بالليرة اللبنانية، لكن تنامى الدين بالدولار بشكل أساسي مع تزايد سلفات الكهرباء وتراكم الفوائد عليها، وتشجّع جميع الأفرقاء المعنيين على زيادة حصة الدين بالدولار من خلال اليوروبوند، رغبة بتخفيض خدمة الدين العام، كون الفوائد على اليوروبوند أقل من فوائد سندات الخزينة بالليرة اللبنانية بسبب فرق مخاطر العملة، فضلاً عن هدف زيادة الاحتياطي بالعملات الأجنبية، دفاعاً عن خيار ربط الليرة بالدولار على أساس سعر صرف 1507. فكان القانون العجيب الذي اقره مجلس النواب في تسعينيات القرن الماضي بتحويل الدين العام من الليرة اللبنانية الى الدولار ، ولم تنفع الأصوات المعترضة على هذا القانون الخطير الذي يحول الدين الداخلي الى دين خارجي سيدفع لبنان الى أزمة كبرى بمديونية عالية قد لا يستطيع تحملها ، وقد تؤدي الى افلاس البلد ، حتى ان بعض أصوات النواب التي عارضت هذا القانون الجهنمي ، وطالبت بمعرفة أسماء النواب الذين رفضوا هذا القانون ، من اجل تسجيلهم على لائحة الشرف حين الانهيار لم يتم ، لأن التصويت كان برفع الايدي ، وكان القرار ” صدق ورفعت الجلسة ” .

إلى ذلك، يضاف المشاريع العملاقة التي تم تنفيذها وكلفت أضعافاً مضاعفة، يدفع ثمنها اللبنانيون اليوم أفدح الأثمان، وعلى سبيل المثال لا الحصر، أن مشروع تحديث مطار بيروت الدولي كانت دراسته تشير إلى تكلفة بحدود الـ400 مليون دولار، لكن هذا الرقم أخذ يتصاعد مع عمليات النهب، حتى تخطت التكلفة المليار دولار، مما يعني أن أكثر من 600 مليون دولار “شفطها” الملتزمون وزبانيتهم، فمثلاً مسألة تلزيم الزجاج كان يفترض في المناقصة التي أجريت على الملتزم الذي قدم عرضاً بـ7 ملايين دولار، لكن بقدرة عجيبة رسا الإلتزام على نجل رئيس الجمهورية في حينه إلياس الهراوي، جورج، بمبلغ 12 مليون و500 ألف دولار، وقام جورج بتكليف صاحب العرض الأقل (أي 7 ملايين دولار) بتنفيذ الإلتزام، الذي ربح فيه نجل الرئيس 5 ملايين و500 ألف دولار من دون أي جهد أو تعب، بما معناه أن الخزينة العامة نهب منها ببساطة 5 ملايين و500 ألف دولار من الزجاج فقط.. وهكذا دواليك في كثير من المشاريع (المدينة الرياضية، سوكلين، سوليدر، النوماندي، الأملاك البحرية والنهرية والاستيلاء على المشاعات وهلمَّ جرا…).

منذ بدء مسيرة الطائف، وتحديداً منذ العام 1992، بدأ “حلب” لبنان وأهله، وصار نهج الفساد غير محدود، فتحول إلى ما يشبه “بقرة واصا باشا” وتعمم الفساد ليصبح ما يشبه “ثقافة حياة”، في ظل انتشار جمعيات خيرية واجتماعية، كالفطر تحت اسم “المجتمع المدني”، يحظى قسم كبير منها بتمويل غربي وعربي، وبعضها بتمويل رسمي كثير منها على رأسها زوجات أو أبناء مسؤولين، وبالتالي فإن الفساد عم اجتماعياً، ليشمل شرائح واسعة من الناس، صار ينعكس على الشارع، انقساماً خطيراً، وبات لبنان مهدد فعلاً بوحدته الوطنية، ولهذا لا عجب أبداً أن يحتل لبنان المرتبة 138 من أصل 180 دولة، وفق “مؤشر مدركات الفساد لعام 2018”.

كانت البداية في سلوك تعميم الرشاوى والنهب تحت عنوان حل مشكلة المهجرين، واتسعت جمعيات ما يسمى “المجتمع المدني”.

مع بدء النزوح السوري إلى لبنان، واتسعت أكثر بعد انفجار المرفأ، ووصل الأمر إلى حد اعتراف دايفيد هيل بمليارات الدولارات التي قدمت لما يسمى “المجتمع المدني”. باختصار، ووفق دراسة أعدتها «الشركة الدولية للمعلومات» عن ابرز أبواب الهدر وكلفة كل منها على خزينة الدولة، تبين ان الكهرباء وقطاع التوظيف العام والاعتداء على الأملاك البحرية وايجارات الأبنية الحكومية هي مركز رئيسي للهدر والسرقة. ورغم ان هذه القطاعات هي المداميك الظاهرة في بنيان الفساد، غير ان ثمة مظاهر اخرى تتمثل بصفقات وسمسرات في قطاعي الاتصالات والكهرباء خصوصا، ما يجعل الوزارات المسؤولة عنها «وزارات دسمة». وهذه السمسرات يعرفها الجميع ولا يملك احد إثباتا عليها نظرا لتشابكها وتوزعها بين قوى السلطة. ووفق تقرير للبنك الدولي، فإن كلفة المحاصصة السياسية تتراوح ما بين 4 و5 مليارات دولار. وتتعدد أبرز أبوب الهدر والفساد فإضافة إلى مؤسسة كهرباء لبنان والتكاليف الباهظة ثمة أمر آخر يعجز عن تبريره هو كلفة الإيجارات التي تدفعها الدولة سنويا والبالغة نحو 150 مليون دولار كبدل ايجار لأبنية تشغلها الوزارات والادارات والجامعات وتعود بمعظمها لنافذين سياسيين، في حين ان ايجار 3 سنوات يكفي لتشييد ابنية تفي بالغرض. علما ان الدولة تملك عقارات في بيروت (نحو 225 عقارا)، يمكن الاستفادة منها. فمبنى «الإسكوا» وسط بيروت تصل كلفة ايجاره السنوي الى 10 ملايين دولار وهو كلّف الدولة منذ تاريخ استئجاره عام 1997 حتى اليوم حوالي 170 مليون دولار.

وابرز مزاريب الهدر التي يمكن أن توفر مبالغ مهمة لخزينة الدولة فيما لو اجتمعت الإرادة السياسية على اقفالها هي المجالس والمؤسسات العامة التي أنشئت كـ«تنفيعات» لزعماء الطوائف مثل معرض رشيد كرامي الدولي في طرابلس (400 مليون ليرة)، ومصلحة سكك الحديد والنقل المشترك اللبنانية (13 مليار ليرة)، وإدارة البريد والبرق (6.8 مليارات ليرة)، الى جانب مجلس الجنوب، ومجلس الانماء والاعمار، والصندوق المركزي للمهجرين، وتكلف هذه المؤسسات نحو الفي مليار ليرة سنويا فيما من الممكن توفير 400 مليون دولار لو الغيت او ربطت بالوزارات المعنية، استنادا الى دراسة «الدولية للمعلومات».

وأباحت الحكومات المتعاقبة لنافذين ومقربين من أصحاب السلطة استثمار الأملاك البحرية لإنشاء منتجعات وفنادق تدر عليهم أرباحا طائلة. وعلى سبيل المثال يبلغ إيجار نادي الغولف اللبناني على عقار تابع للمديرية العامة للطيران المدني، في منطقة الغبيري جنوب بيروت، مساحته 225 ألف متر مربع، 1100 ليرة لبنانية فقط سنوياً، تبعاً للعقد المبرم مع الدولة اللبنانية منذ عام 1964. هذا غيض من فيض الفساد والهدر يضاف إليه الرواتب الفلكية التي بحسب الباحث في «الدولية للمعلومات»، محمد شمس الدين، لا توجد أرقام دقيقة لحجم الهدر، ولو أن هناك تقديرات تتحدث عن أن كلفة الهدر والفساد تبلغ %10 من الناتج المحلي (نحو 4 مليارات دولار).

وفي دولة عاجزة كلبنان، تصل رواتب الـ158 مسؤولاً إلى 41 ملياراً و893 مليون ليرة (على أساس سعر الصرف 1500 ليرة لكل دولار). ويتقاضى النائب ما يساوي 285 مليون ليرة سنوياً (190 الف دولار). كما أن هناك سفراء في الخارج يتقاضون نحو 15 ألف دولار شهرياً! مع العلم ان هناك موظفين يتقاضون رواتب أعلى من رواتب الرؤساء، ويعملون في مصرف لبنان والكازينو وقطاع البترول ومجلس الإنماء والإعمار والمرفأ ومؤسسة أوجيرو وشركة «طيران الشرق الأوسط»، حتى إن بعضهم يعمل في مؤسسات متوقفة عن العمل كمديرية سكة الحديد. ويبدو أن سيرة ما بعد الطائف قد وصلت بالبلد إلى الحضيض، بعد أن استولت المصارف على ودائع وجنى عمر اللبنانيين في تواطؤ خطير مع رياض سلامة المغطى من طبقة سياسية تأكل الأخضر واليابس.

ماذا بعد الى الحلقة المقبلة ومحاولات اميل لحود لمكافحة الفساد .

أحمد زين الدين

الثبات,أقلام الثبات,الخميس  17 تشرين الثاني  , 2022