في منتصف تسعينات القرن الماضي، كان الدين العام في لبنان قد بدأ يرمي بثقله على الاقتصاد الوطني، مع عجز يتزايد في الخزينة، فحذرت أصوات لبنانية عديدة من هذه السياسة الجهنمية التي ستقود البلاد إلى الهاوية، جراء تنامي الدين وتفاقم عجز الخزينة.
يومها، طرحت الأصوات المحذرة من هذه السياسة الليبرالية المتوحشة، وفي مقدمها الخبير الاقتصادي الكبير الرئيس سليم الحص (أطال الله في عمره) من هذا النهج الذي يجعلنا كمن يلحس المبرد، والذي هو في أحد أوجهه استهداف للمقاومة وخدمة للعدو الاسرائيلي، خصوصاً أن تلك الفترة كانت تشهد ارتفاع وتيرة عمليات المقاومة النوعية ضد العدو “الاسرائيلي”.
ويلفت الاهتمام أن الأصوات المحذرة من هذا السلوك الإقتصادي أن من أهدافها جعل كلفة مقاومة العدو وتحرير الأرض مكلفة وغالية الثمن، وخصوصاً أن الأميركي لن يتحمل هزيمة العدو “الاسرائيلي”.
لم يطل الأمر، حتى شعر الجميع بخطورة النهج الليبرالي المتبع، الذي حاولوا أن يزينوه بباريس واحد و2، والذي هو في حقيقته دين يتراكم على الدين العام، وإن كان بفائدة منخفضة، ولكنه في حقيقة الأمر، كان بداية لمسيرة من الدين العام الخارجي، بعد أن كان الدين في بداية تسعينيات القرن الماضي في معظمه داخلي أقل من ملياري دولار.
وفي ظل النهج الليبرالي المتوحش الذي اعتمد منذ نهاية العام 1992، لم يتم بتاتاً تنمية قطاعات الانتاج كالزراعة والصناعة، لابل تم بواسطة السلطات الريعية والمحاصصة تدميرها لدرجة وصل الأمر بأحد وزراء الاقتصاد لأن يتساءل عن مبرر الاهتمام بالقطاع الزراعي، والتي ترافقت مع سياسة تثبيت سعر صرف الليرة، التي استفاد منها القطاع المصرفي فراكم أرباحاً فاحشة، جراء توظيفها في سندات الدين.
منذ أواخر العام 1992، بدأ التورط باتفاق غير محسوب العواقب، ويتجاوز قدرات لبنان المالية، على كثير من المشاريع، ووصل الأمر بوزير الدولة للشؤون المالية آنئذ فؤاد السنيورة إلى ابعد من ذلك، حين أعلن انه “لا يمكن للمصاريف الناجمة عن تمويل مشاريع الإنماء عن طريق القروض بالعملة الصعبة، أن تندرج في الموازنة، لأنه يجب أن يكون هناك مسبقا نظام محاسبة واحد في الادارة”.
كان هذا التصريح مذهلا بأن يصدر عن رجل يفترض فيه أنه يحسن تحويل العملات الأجنبية إلى ليرات لبنانية، ويحسن تقدير مؤونة الفرق المحتمل للصرف، إلا إذا كان يتوقع انهيارا مفاجئا للعملة اللبنانية. ( المال إن خكم – هنري إده – ص 122 ) وباعتراف وزير المالية نفسه بلغ الدين العام في كانون الثاني 1995مبلغ 4 مليار و987 مليون دولار، وفي كانون الأول 1996 بلغ 10 مليارات و 348 مليون دولار، أي أنه تضاعف خلال سنتين وألزم الدولة بفوائد تفوق مليار و 500 مليون دولار سنويا ليبلغ في تموز 1997، 14 مليار دولار، أي أن عجز الموازنة بلغ في نفس هذه الفترة 61 بالمئة، مما يعني أن خدمة الدين صارت تساوي مجموع المصاريف السنوية العادية للدولة، وهكذا تضاعف الدين العام الذي كان يقدر في تشرين الأول 1992، عند تشكيل حكومة الحريري بمليار و 300 مليون دولار أكثر من عشر مرات في أقل من خمس سنوات .
منذ نهاية العام 1992، كانت الطبقة السياسية والمصارف تحقق أرباحا خيالية على حساب الأقتصاد العام للبلد، لأنها في وضع يسمح لها من دون أي خطر جدي، بتحويل قسم كبير من ودائعها بالدولار إلى سندات خزينة بالليرة اللبنانية مع تحقيق أرباح هائلة ناجمة عن الفرق بين أسعار الفائدة على العملة الأميركية (من 6 إلى 8 بالمئة)، والفوائد على الليرة التي وصلت أحيانا إلى نحو 45 بالمئة، علما “أن المصارف تعلم يوما بيوم اسرار الدولة”. (المال إحكم _ هنري إده- ص121) كل شيء كان مباحا، في ظل سلوك هائج نحو الخصخصة وحرمان الدولة من المداخيل الهامة، فالهاتف الخلوي، على سبيل المثال لا الحصر كانت تملكه عام 1994 شركتان أو شخصان، وقبل أن يعمم الخلوي على الناس، تمكنت الشركتان من تكوين رأسمال هام، بتقاضي 500 دولار عن كل خط، قبل تشغيله وقبل أن يستلم المواطن خطه الخلوي بأشهر ، بينما بلغ ربح كل شركة سنويا مليار دولار أي نحو ملياري دولار، فيما لم تستفد الدولة بأكثر من 300 مليون دولار سنويا .
هكذا .. كان وضع العائلات اللبنانية يتدهور اجتماعيا وإقتصاديا حيث تتمركز الثروة بين أيدي أقل من 2 بالمئة من اللبنانيين فقط .
وكانت بداية إصلاح
وإذا كانت السنتين الأولين من عهد الرئيس إميل لحود (1998 – 2000)، وضعت اللبنات الأولى للإصلاح المالي في ظل حكومة الرئيس سليم الحص، التي قررت استعادة الخلوي ووضعت أسس ضريبة القيمة المضافة ، “TVA”، لجم التدهور الإقتصادي الذي كان يسير بوتيرة متسارعة، وأمن مداخيل هامة للخزينة العامة تجاوزت الخمسة مليارات دولار، إلا أن تحالف المصالح الذي كان قد بدأ تشكيله مع بداية تنفيذ اتفاق الطائف، أنتج انتخابات العام 2000 التي اسقطت الرئيس الحص، وطوقت عهد الرئيس إميل لحود الذي وقف وحيداً مقاوماً لنهج الليبرالية المتوحشة والفساد، ومن الأمثلة الخطيرة على نهج تصفية القطاع العام ماطرح عن بيع قطاع الكهرباء بدولار واحد، فنكون بذلك نربح ملياري دولار، فكان أن تصدى الرئيس لحود لهذا الطرح الخطير، متسائلاً هل يمكن لمن سيأخذ قطاع الكهرباء أن يشتري قطاعاً خاسراً، ليتبين له أن الشاري سيكون شركة كهرباء باريس، فأفشل لحود هذا النهج الخطير والمدمر. (وهذا ما لنا عودة اليه)
أحمد زين الدين
الثبات,أقلام الثبات,الخميس 28 تشرين الثاني , 2022