الفساد في لبنان .. واقعه وجذوره (13 ) – الراصد العربي

الفساد في لبنان .. واقعه وجذوره (13 )

محير وغريب الحديث عن الميثاقية كل ما “دق كوز المصالح الفئوية والمذهبية بجرة المصالح السياسية”، هكذا ينسف الدستور، وينسف الميثاق الوطني، و”الصيغة” اللبنانية، وتضرب أنشودة “العيش” “الواحد” أو “المشترك” وهلم جرا، من لوازم المصطلحات “الوطنية” و”الطائفية” وغيرها … والتي تحضر غب الطلب والمصلحة السياسية والفئوية، وحين يتناصح السياسيون ويتصالحون، ووقت يختلفون ويتصايحون، يفلسفون الأمور، دستورياً وقانونياً وتاريخياً وفق أهوائهم ومصالحهم.

في التجربة والممارسة العمليتين يتبين أن “الميثاقية” صارت عندنا، نظاماً عنصرياً يميز بين المواطنين حتى في المذهب الواحد، ومثال على ذلك، لاحظوا وتابعوا نتائج ببساطة، فإن ذلك نوع من حكم ثيوقراطي (سلطة تستمد شرعيتها من الله)، مما يعني أن السياسيين والزعماء وكبار الموظفين هم في حماية مطلقة، ويصير كل من يخالف أو ينتقد السائد والفساد حاله كحال غاليليو غاليلي الذي أثبت أن الأرض تدور حول الشمس، فاعتبرت الكنيسة أن هذا الإثبات هو طعن في المؤسسة الكنسية، فهاجمه رجال الدين واتهموه بالجنون، والهرطقة، وحكم عليه بالسجن، ثم خفف الحكم إلى الإقامة الإجبارية ومنع من مناقشة نظرياته وكتاباته العلمية، لكنه ظل يدافع عن مركزية الشمس حتى مات داخل منزله مقهوراً، وبالتالي، حاله كحال الطبري الذي حكم عليه بالهرطقة، فسدت أبواب ونوافذ منزله عليه بالحجارة، ومات في داخله كمداً وقهراً.

وبذلك يصبح هذا النمط من السلطة نوعاً عشائرياً واقطاعياً يمثل جزءاً بسيطاً من المواطنين، مما يؤدي إلى:

1- وجود مسؤولين وقادة وموظفين كبار فوق المساءلة والمحاسبة والقانون، يستمدون حمايتهم وسطوتهم وتجاوزاتهم من مرجعيات دينية وسياسية مهيمنة، فهل تذكرون كيف تحول السراي الحكومي في زمن حكومة فؤاد السنيورة الأولى إلى مصلى من أجل خدمة السنيورة، وكيف صار هذا الأخير خطاً أحمر، وبات رياض سلامة خطاً أحمر عند رأس طائفته وهلّم جرا من الوقائع والأمثلة عند شتى المذاهب والطوائف. – جمود المؤسسات والإدارات وشلها، لأن قرار مذهب ما، سيجابه بالرفض من مذهب أخر من الطائفة نفسها.

2- تحجر الدولة وتخلفها ونشوء محميات لهذا وذاك من الطوائف.

3- تقوقع كل مذهب وعدم مخالطة المذاهب الأخرى مما قد يدفع إلى فتن ومشاكل كل فترة زمنية، وبالتالي يتحول الغنى في التعدد إلى نوع من الصراعات لا حصر لها.

ببساطة، فإن الدمج بين القبيلة والطائفة والسياسة والمصالح الخاصة، انتج وباء الفساد “العظيم”، ويؤكد أن النماذج التي حكمتنا وتحكمنا بعد اتفاق الطائف وحتى قبله بمعظمها فقدت أي حس بالمسؤولية عن موت الدولة الذي تشهد الآن حشرجاتها الأخيرة.

وكما يقول المؤرخ الراحل الدكتور كمال الصليبي في كتابه “تاريخ لبنان الحديث” الصادر عام 1996م: “إن هذا ليس بمستغرب في بلاد سيطرت عليها المصالح الطائفية والعائلية، ثم أن الفساد في الإدارة اللبنانية، لم يكن جديداً، إنما كان موروثاً من عهود سابقة وازدادت وطأته …”.

والحكومة الاستقلالية الأولى حددت بشكل واضح في بيانها: “ومن أسس الإصلاح التي تقتضيها مصلحة لبنان العليا معالجة الطائفية والقضاء على مساوئها، فإن هذه القاعدة تقيد التقدم الوطني من جهة، وسمعة لبنان من جهة أخرى، فضلاً عن أنها تسمم روح العلاقات بين الجماعات الروحية المتعددة التي يتألف منها الشعب اللبناني، وقد شهدنا كيف أن الطائفية كانت في معظم الأحيان أداة لكفالة المنافع الخاصة، كما كانت أداة لإهانة الحياة الوطنية”.

وأكد البيان: “إن الساعة التي يمكن فيها إلغاء الطائفية هي ساعة يقظة وطنية شاملة في تاريخ لبنان” … وما زالت هذه الساعة منتظرة، منذ أيلول عام 1943 حتى الغد وما بعده. وإذا كان لبنان قد وصل إلى الاستقلال الوطني من خلال الميثاق والصيغة الوطنية التي أرسى أسسها بشارة الخوري ورياض الصلح في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، فإنها بقيت على جمودها ودخلت في متاهات متعددة منذ 1943 حتى الآن.

فلبنان من خلال الميثاق، كما في الدستور ومقدمته، هو وطن حقوق الإنسان والمساواة والحرية والانصاف والعدالة والإرادة العامة الديمقراطية، ولبنان من خلال الميثاق يعطي الهوية الفردية حدوداً منفتحة على المواطن الآخر.

أما من خلال الصيغة فهو المحاصصة والصراع على السلطة والمنافع والزبائنية السياسية والمحميات الطائفية وتصادم الهويات المذهبية، وسيطرت العصبيات في الحياة السياسية وتحكم المرجعيات الدينية بشؤونها واتجاهاتها، لبنان من خلال الصيغة يعطي الهوية الجماعية حدوداً مطلقة في وجه الجماعات الطائفية الأخرى. حصر التمثيل الميثاقي الطائفي ضمن نخبة ضيقة من هذا المذهب أو ذاك تقرر مسار الوطن ومصيره، وترفض إرساء النظم الديمقراطية الحقة. الفقرة “ي” من مقدمة الدستور تحدد بأنه “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك” وليس على أساس حفلة المحاصصة بين الطوائف والمذاهب.

فالعيش المشترك وفقاً لبيان الحكومة الاستقلالية الأولى والمقدمة الدستورية يفترض أن يعني الحرية بكل معانيها والتي من دونها لا وجود للبنان، والمساواة بين المواطنين والمواطنات التي من دونها لا وجود للدولة، وبالتالي يعني الشعب الواحد. الميثاق يفترض أن يعني العيش الكريم للمواطن الذي من دونه لا حرية، وهو أيضاً التكافل والتضامن الذي ينتج الوحدة الوطنية أي ما معناه السيادة والاستقلال.

لقد جعل سياسيو لبنان “الميثاق الوطني” كإله من تمر، يأكلونه حينما تستدعي مصلحتهم ذلك، ويهضمونه لإشباع هفواتهم ومصالحهم وأطماعهم، فهل تتذكرون حكومة فؤاد السنيورة الأولى المؤلفة من 24 وزيراً حين فقدت سبعة من وزرائها، (ستة بالاستقالة، خمسة شيعة، وواحد أرثوذكسي وماروني بالاغتيال )، ومع ذلك كله استمر السنيورة سعيداً في السراي الحكومي، بناء لفتوى وزيره: القاضي السابق، وعضو المجلس الدستوري السابق، الذي افتى بشرعية وميثاقية تلك الحكومة العرجاء لأنها نالت ثقة مجلس النواب حين تشكيلها، وهي فتوى لا تركب على قوس قزح: قانوناً ودستوراً وعرفاً وتقليداً، وخصوصاً أنها فقدت مكوناً أساسياً فيها، فأصبحت من دون أي وزير شيعي وناقصة التمثيل اورثوذكسياً ومارونياً.

ويحضرنا هنا مثال كبير، قدمه الرئيس الراحل تقي الدين الصلح عام 1974م، حين قدم استقالة حكومته المؤلفة من 22 وزيراً للرئيس سليمان فرنجيه، بعد استقالة وزيري جبهة النضال الوطني، وهما: بهيج تقي الدين، وعباس خلف، فاعتبر الصلح وهو أحد النشطاء السريين في إنجاز الميثاق الوطني “بين بشارة الخوري ورياض الصلح، أن حكومته اختلت ميثاقياً ووطنياً، وبأسس تشكيلها رغم أنه كان فيها وزير درزي ثانٍ، هو الوزير والنائب الراحل مجيد أرسلان، علماً أن الصلح أصر على الاستقالة وفق هذا المفهوم، رغم محاولة الرئيس فرنجية لإقناعه بالاستمرار، حيث أكد الأخير أن الصلح جاء رئيساً بغير إرادته، وهو يستقيل من غير إرادته، وأنه متمسك به.

أحمد زين الدين

الثبات,أقلام الثبات,لأربعاء 21 كانون الأول  , 2022