الثابت في النظام اللبناني هو الفساد، الذي يعيد تشكيل نفسه في كل مرة، بأشكال مختلفة، من خلال علاقات الفساد التي تكمن في أساس تكوينه، كما أشارت “بعثة أرفد” التي كلفها الرئيس الاستقلالي الثالث اللواء فؤاد شهاب في مطلع ستينيات القرن الماضي لإجراء تقويم للاقتصاد والحكم في لبنان ووضع أسس إصلاحه وإنقاذه من الانهيار.
فؤاد شهاب وصف سياسي لبنان بـ”أكلة الجبنة”
انئذ عبرت هذه البعثة الفرنسية عن دهشتها من بقاء النظام الفاسد صامدا نحو عقدين من الزمن بعد استقلال لبنان عن فرنسا (1943 ) مستغربة طرق عمله، واقترحت خطة تنموية لمكافحة الفساد وإصلاح الإدارة، تعذر تطبيقها ولم يسمح لراعيها الاصلاحي الرئيس شهاب ان يحكم لولاية جديدة، مفضلاً ترك الحكم، رغم أن 85 نائباً من أصل 99 كانوا يريدون تجديد ولايته بموافقة إقليمية ودولية، لكن شهاب رفض بشكل قاطع واصفاً السياسيين اللبنانيين بـ”اكلة الجبنة”، علماً أن الفساد ينتشر بمعرفة كل اللبنانيين الذي يشاركون فيه علنا بوصفه “شطارة” ابتداء من اعلى الهرم الى ادنى المراتب الاجتماعية. واذكر هنا تصريحاً لرئيس وزراء لبناني اعتلى يوماً المنصب للمرة الأولى، كان يردد امام مناصريه “صرلنا ناطرين سنين طويلة حتى ناكل “هاللقمة” ولن نسمح لاحد بحرماننا منها”. هكذا انتصر الفساد في ستينيات القرن الماضي . فكيف يمكن من يحمل فكرة إصلاح أن يحكم ، اذ على تعبير الرئيس فؤاد شهاب قبل توليه الحكم ” كيف يمكن لتحكم هالشعب اللي على السرقة والتهريب ؟ ”
رغم أن الرئيس شهاب وضع اللبنات الأساسية لدولة المؤسسات، ويكفي أن نشير أن ميزانية الدولة قبل بداية العهد الشهابي، كانت تبلغ نحو مليون ليرة لبنانية فقط، فأصبحت مع نهاية العهد في العام 1964 تفوق الـ500 مليون ليرة، دون أن تتراكم الديون، ودون زيادة الضرائب والرسوم على المواطنين، لأن السياسة الشهابية خلقت جواً من النمو الاقتصادي العام في البلاد، وبالتالي تزايدت موارد الدولة وانفاقها على المشاريع والخدمات العامة.
ويمكن التأكيد أن المرحلة الشهابية هي التي وضعت خطة انمائية واضحة للبنان، فبعد الخطة الانمائية الأولى التي وضعتها “بعثة ايرفد” لتحقيق الانماء الشامل، كانت الخطة الخمسية الثانية التي استمر تنفيذها بعد انتهاء ولاية الرئيس شهاب واستمرت حتى عام 1970.
حتى في السياسة الخارجية، اتبع الرئيس شهاب سياسة الانفتاح على الغرب والدول الكبرى، دون أن يقاطع الاتحاد السوفياتي، معتبراً الدولة الاشتراكية دولاً صديقة، خلاف العهد السابق (الشمعوني)، وبالتالي أمن استقراراً للبنان بعيداً عن المنازعات والاحلاف الدولية.
بيد أن الرئيس شهاب، كان من موقعه سواء في قيادة الجيش أم في رئاسة الجمهورية، قد كشف حقيقة وواقع الطبقة السياسية التي لا يمكن التعايش معها، فأطلق عليهما وصفه الشهير “أكلة الجبنة”.. وإذا كان يسجل من مآخذ على المرحلة الشهابية فهي تدخل الشعبية الثانية، في الحياة السياسية، ولعل السبب في ذلك أن الرئيس شهاب لم يكن يطمئن إلى سلوك الطبقة السياسية، فكان يرتاح إلى التعاون مع الضباط القدامى من رفاقه الذين اختبر كفاءتهم ووثق بهم وبولائهم أثناء خدمتهم معه في الجيش، وكان هذا التعاون يتم عبر بعض الضباط الذين اختارهم للعمل في الغرفة العسكرية في القصر الجمهوري وضباط المكتب الثاني في الجيش الذي يدخل ضمن صلاحياته السهر على أمن البلاد وسلامة الجيش، وبهذا لم يخل الحال من تجاوزات للشعبية الثانية، وخصوصا بعد أن تعزز دورهم إثر المحاولة الانقلابية للحزب السوري القومي الاجتماعي في الأول من كانون الثاني 1961 ، ما اثار نقمة المعارضين للشهابية.
بعد الرئيس فؤاد شهاب، كان الرئيس شارل حلو الذي بدأ العمل للإفلات من ظل سلفه الذي اختاره للمركز الأول في البلاد، ولهذا سرعان ما انفتح على المعارضة للرئيس شهاب وأهمل المشاريع الاجتماعية والانمائية التي كان الرئيس شهاب قد اطلقها، مما ادى إلى تدهور العلاقة بينه وبين سلفه، وظل ضباط المكتب الثاني يلعبون دور الوسيط بينه وبين الرئيس السابق، مما اعطى أهمية كبيرة لهذا المكتب الذي تعاظم دوره السياسي، وادى إلى استغلال المعارضة لهذه الظاهرة وباشروا العمل على تهديم الشهابية ككل، في وقت ترك الرئيس حلو الأمور تتفاعل، ملتزماً دوراً حيادياً في الظاهر، ومشجعاً للمعارضة في السر، خصوصاً بعد حرب حزيران عام 1967، فخيب شارل حلو أمل فؤاد شهاب.
وكانت النتيجة أن الدولة بدأت تصاب بالضعف وعلامات التراخي، وبالتالي حتى أن قوّة الدفع في مسيرة الإصلاح تلاشت. كما أن الخطوة الإصلاحية في الشأن الإداري التي أقدم عليها الرئيس حلو في العام 1965 والتي سمّيت بعملية التطهير الإداري، لم تكن موفّقة على صعيد الحكم الرشيد، لأن هذه العملية اعتمدت على نص قانوني حرمت من نالهم التطهير حق الدفاع، حيث كانت قرارات الحكومة بالصرف غير خاضعة لأي طريق من طرق المراجعة القضائية. ومن الأحداث المهمة التي عطّلت عهد الرئيس حلو هي:
– أزمة بنك إنترا 1966 وانعكاساتها الاقتصادية والمالية والاجتماعية.
– قرار الوكالات الحصرية في أب 1967.
– الاعتداء الإسرائيلي على مطار بيروت 1968، وتدمير أسطول الميدل ايست من دون أن تطلق رصاصة واحدة على العدو.
– انتشار المقاومة الفلسطينية وأزمة الحكم في 1969 واتفاق القاهرة.
– تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وتزايد حزام البؤس حول العاصمة.
(يتبع)
أحمد زين الدين
الثبات,أقلام الثبات الجمعة 23 أيلول , 2022