في العام 1974، كان لافتاً تصريح وزير الخارجية الأميركية عن لنبان بقوله: “أن الوضع في لبنان هادئ، ولكنه مشحون بأكثر الاحتمالات تفجراً، وهو يذكرني بالموقف الدولي عشية الحرب العالمية الثانية حين ذهب بعض الزعماء إلى قضاء إجازات نهاية الأسبوع واشتعلت الحرب العالمية في اليوم التالي” يومها، كان الرئيس الشهيد رشيد كرامي أول من تنبه لخطورة هذا التصريح وينقل عنه النائب السابق الدكتور عمر مسيكي، أنه أكد له أن لبنان هو الحلقة الأضعف بين الدول العربية، وأنه ساحة الصراع المرتقبة في المنطقة بين مشاريع التسوية وقرارات المواجهة، وأنه قد يتحول إلى ساحة مفتوحة لأن الفلسطينيين يريدونه كمنبر إعلامي عالمي وعربي لهم، ويريدون أرضه كمنطلق لعملياتهم، وأن العرب يفضلون أن يكون الصراع في لبنان على أن تكون الغارات الإسرائيلية والاعتداءات والجرائم والمؤامرات الصهيونية تستهدف أي دولة ضمن النظام العربي المنقسم على نفسه يومها بين دعاة التسوية ودعاة الصراع. (اللواء 24/7/2007).
إذاً بات وضع لبنان في ظل كل هذه التطورات مفتوحاً على شتى الاحتمالات، خصوصاً بعد أن بشرنا هنري كسينجر بالحرب غير المنتظرة “وعمل وإدارته على دفع لبنان إلى الانتحار خطوة خطوة، في ظل وجود خطة إسرائيلية خطيرة لتنال لبنان بشرارتها وشرورها وضعت بعد هزيمتها عام 1973 أمام الجيوش العربية وبدأ العمل على تنفيذها منذ ذلك التاريخ وهي تتضمن:
– تنفيس النصر العربي بمناورات فك الارتباط الجزئي، ثم المرحلي، ثم بالمفاوضات كسباً للوقت فقط دون تقديم أي حل أو تصور لحل جذري في المنطقة.
– فتح جبهة غير معلنة في لبنان لإبقاء حالة التوتر في المنطقة وعدم إيصالها إلى أي نتيجة حاسمة.
– إدخال الفلسطينيين في نفق مظلم عبر محاولة إبادتهم داخلياً وخارجياً إن بالحرب المباشرة أم بالصراعات فيما بينهم أو بينهم وبين إخوانهم العرب.
يذكر أنه في هذه الفترة كان لبنان يشهد المزيد من الموفدين العرب والأجانب، إلى دخول كل أنواع المخابرات بما فيها المخابرات الإسرائيلية، الذين كانوا يتسابقون على تسجيل المواقف ودفع البلاد نحو الهاوية.
وجاءت حادثة البوسطة في عين الرمانة بعد ظهر يوم الأحد في 13 نيسان 1975 لتفتح باب الأزمة على مصراعيه، ولتدخل في مراحل مختلفة، من مناوشات على خطوط التماس بين الشياح وعين الرمانة إلى خطوط تماس في كل المناطق، وإلى حرب طائفية قذرة كان الناس يدفعون ثمنها من أرواحهم وأملاكهم.
منذ 13 نيسان 1975، لحظة اندلاع الحرب الأهلية حتى وضع نقطة النهاية لها في أواخر العام 1989، مرت البلاد في ظروف ومراحل مختلفة.. فكان هناك حوارات، ولجان حوار، لم تسفر عن نتيجة، وفي كل الحالات كان هناك حروب وخطوط تماس توسعت إلى كل لبنان، ودخلت الأزقة والزواريب في مختلف المناطق، وتخللها تصفيات واغتيالات، وقيام تحالفات وجبهات سياسية، كانت تتلون وتتشكل حسب طبيعة كل مرحلة، وحسب الطلب.
وكان كل طرف من أطراف الأزمة على المستوى اللبناني يريد أن يسجل نصراً، أو يريد أن يلغي أحد الأطراف لتبقى الساحة له، لكن أحدا لم يكن ينتبه أن لمخطط للمنطقة عموماً وللبنان على وجه التحديد أكبر منه، أو أنه يتحول رويداً رويداً إلى بيدق في لعبة الأمم الكبرى.
لم ينتبه أحد أن وزير الخارجية الأميركية هنري كسينجر أطلق في العام 1974 شرارة الأزمة اللبنانية، حينما اعتبر لبنان بلداً فائضاً في المنطقة.
ولم ينتبه أحد من “أبطال” الصراع أن المبعوث الأميركي دين براون أعلم الرئيس سليمان فرنجية في شهر آذار عام 1976 أن البواخر جاهزة في عرض البحر لنقل المسيحيين من لبنان إلى أي مكان يريدونه في العالم، فكان أن صرخ الرئيس فرنجية في وجه دين براون عالياً، بما يشبه الطرد وببساطة، كانت المسألة هنا واضحة أنهاء الوجود المسيحي بما هو مشرقي وعروبي وما فيه من روح مسيحية، من هذه المنطقة، أي استكمال الحروب الصليبية، بأشكال مختلفة، بأن يتحول نبع المسيحية غربياً مادياً، وليس بجوهره الروحي المشرقي الحضاري والأصيل.
حروب وتصفيات داخلية في كل منطقة لم تتوقف، في نفس الوقت الذي كانت في خطوط التماس تنتشر وتتوسع إلى مناطق جديدة، خطف واغتيالات وتصفيات، وتهجير وتشريد وتدمير بيوت ومساكن وقرى بأكملها، كان الناس بالبسطاء والعاديون، يدفعون ثمنها وحدهم، فيما أثرياء الحرب وأباطرة السياسة يتوالدون كالفطر على حساب الناس والبلاد.
كثيرون من الذين كانوا يخطفون على الهوية يذهبون من هذه الدنيا بالعشرات دون أن يحس بهم أحد، فيما إذا خطف ابن زعيم أو مسؤول أو ثري حرب تتحرك كل المقامات السياسية والروحية في البلاد، وحتى تتدخل الدول فيتم الافراج عنهم سالمين مكرمين.
وإذا كانت أعمال الخطف والتهجير بدأت منذ الأيام الأولى للحرب، واتسمت بأعمال فردية، منظمة أحياناً، وعشوائية وفوضوية أحياناً أخرى إلا أنها دشنت بشكل واسع جداً يوم الخميس في 4 كانون الأول 1975 بأعمال خطف واسعة في بيروت وضواحيها، حيث تم في هذا اليوم خطف أكثر من 200 شخص، وفي 6 كانون الأول 1975 شهدت بيروت أعمال تصفية جماعية استعملت فيها كل وسائل القتل من سواطير وبلطات ورصاص وقذائف، ففي هذا اليوم الذي حمل اسم السبت الأسود، تم حصد العشرات من المواطنين الأبرياء في أعمالهم وعلى الطرقات وفي الشوارع العامة.
في هذا الوقت وفيما كانت خطوط التماس تزداد عنفاً وتتوسع إلى مناطق جديدة، كانت كل منطقة تشهد أعمال تصفيات لقوى وأحزاب.
وبات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية مهيمناً على المنطقة الغربية، فكان أبو عمار كما روى جورج حاوي في مجلة الوسط – العد 228 (10-16 حزيران 1996) “يأمر بصرف سلاح ومال، وكان هناك تفاهم بينه وبين مسؤول المخزن، فإذا حمل أمر الصرف نقطتين إلى جانب التوقيع ينفذ الأمر، أما إذا كانت هناك نقطة واحدة، فإن الأمر لا ينفذ، ولطالما وقع أوراقاً ولم تنفذ وألقيت المسؤولية على عاتق مسؤول المخزن.
ذات يوم كان هناك سلاح مرسل من الاتحاد السوفياتي إلى كمال جنبلاط وإلينا عن طريق “فتح” التي ستتولى نقله من سورية ثم توزيعه، انتظرنا طويلاً فطلب كمال جنبلاط بإلحاح عقد اجتماع فجاء أبو عمار وحضرنا أنا ومحسن إبراهيم، طالب كمال جنبلاط بسرعة تسليم الأسلحة لأن الوضع محتدم فأبدى أبو عمار استغرابه أن لا تكون وصلت بعد، أرسل في طلب المسؤول عن المخزن عنده فجاء، قال له: لماذا لم تسلم الأسلحة بعد. فأجابه: اضطررت إلى القيام بأعمال أخرى، فقال عرفات: “إلى السجن فوراً، ستدفع ثمن هذا التأخير”.
أضاف: “بعد يومين اتصل كمال جنبلاط بي وبمحسن إبراهيم، وقال حرام إبراهيم (المسؤول عن المخازن) فليفرج أبو عمار عنه لأن الإنسان يخطئ، فقلنا له أي سجن، قال: كنتم حاضرين، فضحكنا وقلنا له يا كمال بك بالأمس كنا نتعشى مع إبراهيم، والمسألة جزء من أسلوب أبو عمار، بعدها سلم بعض الأسلحة إلى جنبلاط الذي اتصل مجدداً فتوجهنا إلى منزله وقال لنا: يا عمي اعطونا أسلحة قديمة، ونحن اشترينا أسلحة جديدة اتصلنا فجاء أبو عمار فقلنا له ذلك، فأجاب: “كده السوفيات بيعملوها معنا، مرات كثيرة بيعطونا سلاح مستخدم”. ضحك كمال جنبلاط وقال: “مستخدم لكن مكتوب عليه “أبو الليل” و”أبو الموت” و”أبو الهول”؟ ضحك أبو عمار وقتله”.
لم تكتف فصول الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1989) بالمعارك والاشتباكات على خطوط التماس بين ما كان يعرف بـ”الشرقية” و”الغربية”، ولا بالحواجز على الطرفين، وعلى جميع الطرقات بين المناطق، حيث كانت تفرض على العابرين رسوم المرور والخوات، التي كانت تذهب إلى حسابات “القائد” هنا أو هناك، وكلها كانت تحت عنوان “المجهود الحربي”.
وانتهت الحرب الأهلية اللبنانية بتوقيع اتفاق الطائف في 24/10/1989 حفلت بشتى أنواع التصفيات الجسدية لكل من رفع رأسه بوجه “القائد المنقذ”، فتمت في “الشرقية”، تصفية كل من تجرأ على نقد مشروع بشير الجميل، فكان على سبيل المثال لا الحصر اغتيال طوني سليمان فرنجية وعائلته في 13 حزيران 1978 ومجزرة الصفرا 1981 حيث تمت تصفية حزب الوطني الأحرار وكثير غيرها من الجرائم الفردية والجماعية، وكانت الخوات والأتاوات على محطات البنزين والشركات والمؤسسات وقبلها نهب مرفأ بيروت وغيرها الكثير.
أما في الغربية فكانت حروب الأزقة والزواريب والتصفيات والخوات ومعابر المرور وهلم جرا، في وقت كانت الأحزاب العقائدية تتسلل إليها عناصر انتهازية وتحتل بسرعة مواقع قيادية لأنها تجيد “تمسح الجوخ” للقائد “الملهم”، وأخذت هذه الأحزاب تمارس في ظل القيادات الانتهازية شر الأعمال الحزبية والبلطجية.
وبعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 توهم اليمين اللبناني أنه أحكم قبضته على البلد، فاغتيل بشير الجميّل الذي انتخب رئيساً في ظل الدبابات الإسرائيلية في 14/9/1982، وشرعت إسرائيل، تحت ضربات المقاومة الوطنية، في انسحاباتٍ متدّرجة من لبنان طوال الأعوام 1982 – 1985، تاركة اليمين اللبناني غارقاً في مغامراته الخاسرة مثل حرب الجبل (1983) بقيادة سمير جعجع. وفي تلك الحقبة، صعدت المقاومة اللبنانية، بوجهيها اليساري العلماني ثم الاسلامي، إلى الواجهة السياسية في لبنان، وانهار الجيش اللبناني جرّاء سياسات الرئيس أمين الجميّل، ثم سارت الأمور نحو توقيع اتفاق الطائف في 24/10/1989، وانتهت الحرب الأهلية بهزيمةٍ مدويةٍ لليمين اللبناني، فيما لم يكسب اليسار أي شيء تقريباً، بل أعادت الطوائف المشارِكة في الحرب الاستيلاء على النظام السياسي، ووزعته حصصاً بنسب جديدة.
اليوم، يحاول اليمين اللبناني، التقليدي والجديد، أن يستعيد بعض ما خسره في اتفاق الطائف، وقد تمكّن فعلاً من جرّ اليمين الإسلامي، القديم والجديد، إلى سياساته، ومجموعات سلفية متناثرة هنا وهناك، علاوة على الأعيان التقليديين. حتى أنه تمكّن من اختراق اليسار اللبناني، فاصطفّ الحزب التقدمي الاشتراكي إلى جانب “القوات اللبنانية”، والتحقت مجموعاتٌ شيوعية بأكثر الفئات الرأسمالية رجعية، أي الرأسمالية العقارية التي مثّلها حتى اغتياله الرئيس رفيق الحريري، وكانت الذريعة هي التوافق الوطني وبناء الدولة الجديدة، وهي ذريعةٌ بائسةٌ ومبتذلة، أدّت نتائجها العملية إلى انهيار الدولة ذاتها ماليًا واقتصاديًا وبيئياً. لقد خسر اليمين الطائفي اللبناني الحرب الأهلية التي فجّرها بوعي كامل وإرادة حرة، واعتقد آنذاك، أي في سنة 1975، أن الغرب سيُرسل جحافله لحماية المسيحيين في وجه المسلمين والفلسطينيين. خسر اليمين الحرب؟ هذا صحيح. لكن فكر اليمين، وكره العروبة، انتصرا، مع الأسف، حتى في صفوف مسلمين صارت العروبة لديهم تعني تأييد المملكة السعودية، وتلقي الأموال والأوامر منها. وها هي الحرب الأهلية محتدمة اليوم في جميع أرجاء لبنان، لكن من دون سلاح.
(يتبع).
أحمد زين الدين
الثبات,أقلام الثبات,الخميس 27 تشرين الأول , 2022