لكل عهد في لبنان فضائحه، ففي عهد الرئيس أمين الجميل، كانت بداية الانهيارات الكبرى، فالليرة التي عجزت الحرب (1975 ـ 1982) عن هزيمتها، بدأ انهيارها بفضل صفقات العهد، ويسجل في عهد أمين الجميل الكثير من الصفقات التي أسهمت بانهيار الأوضاع الاقتصادية في البلد.
ففي الوقت الذي شنت فيه الحرب الأهلية، منذ 13 نيسان 1975 بذريعة الفوضى والفلتان الفلسطيني، قام أمين الجميل، بصفقة جوازات السفر لآلاف الفلسطينيين لقاء بدل كبير عن كل جواز، وكما يؤكد الرئيس نبيه بري في مقابلة مع صحيفة الديار في 17 كانون الأول 1989 فإن “جوازات السفر اللبنانية تعرضت للتزوير والبيع” وأن الرئيس أمين الجميل أكثر شخص باعها بـ”الجملة والمفرق” وقال: “حقيقة كان هناك بيع، وانا املك إثباتاً، ويجب تحرك النيابة العامة لهذا الأمر، وحين كنت وزيراً للعدل طالبت بتحريك هذا الموضوع، ولدي إثباتات أن أمين الجميل باع سبعة الآف أو ثمانية الأف جواز سفر”
والأمر في عهد ما بعد الاجتياح “الاسرائيلي” للبنان عام 1982، لم يتوقف على جوازات السفر هذه، انما طال الكثير من الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ويسجل العديد من التجاوزات والارتكابات، نشير إلى بعضها وابرزها بدء انهيار الليرة اللبنانية، وصفقة طائرات البوما، وصفقات سامي مارون وروجيه تمرز.
فعلى مستوى انهيار الليرة، يذكر أن احتياطي لبنان من العملات الأجنبية قد انخفض في خلال سنة ونصف، ففي اخر عهد الرئيس الراحل الياس سركيس بلغ احتياطي لبنان من العملات الأجنبية حوالي ثلاثة مليارات دولار وكان أن انخفض في حوالي العام 1984 إلى ما دون ستماية أو ستماية وخمسين مليون دولار، والقسم الأكبر من هذه المبالغ ذهب ثمناً لصفقات تسليح، وكما قالت الشائعات فإن القسم الكبير منها دفع على شكل عمولة (كومسيون) لجيوب المنفذين، والكارثة الثانية أن كل صفقات هذا السلاح كانت سبباً لإحراق شعبنا في أتون الحرب اللبنانية، مما سبب في خسارتنا للمال وللدعامة الأساسية لليرة اللبنانية وخسرنا أيضاً شبابنا واخيراً سلاحنا.
اما على مستوى صفقة طائرات البوما، التي تم شراؤها على اساس انها فرنسية الصنع وإذا بها رومانية يقدر ثمنها بين 750 و 850 الف دولار، ووفقاً لما جاء في تقرير لجنة التحقيق البرلمانية، وتحديداً محضر الجلسة الرابعة من العقد الثاني للدور التشريعي الثامن عشر من عام 1994، حيث يقول النائب السابق نجاح واكيم: ” قال لنا أعضاء لجان الاستلام انه تم فقط ذهاب الطيارين لقيادة الطائرات، غير مزودين بتعليمات ولا بصور عن العقد ولا بأي شيء أخر، فهم كونهم ارتضوا الذهاب على هذا الشكل يتحملون قسطا من المسؤولية التقصيرية”.
يضيف: “وكما تعرفون فان اكتشاف امر الطائرات على انها رومانية، وليست فرنسية، وليست جديدة، وغير مطابقة لشروط العقد، وقد جاء هذا الكشف في تقرير اللجنة العسكرية، وقد تبنته اللجنة وأخذت العلم به، ولكن، والكل مسلم بوقوع الجريمة، فان اخلال الجانب الفرنسي بشروط العقد كلنا يسلم به، ولكن السؤال المطروح هو من يتحمل المسؤولية الجرمية”.
يتابع: تذكرون آنذاك، انا كنا نقرأ تصريحات في الصحف يدلي بها رئيس الجمهورية الذي هو في نفس الوقت القائد الاعلى للقوات المسلحة، والذي كان يفاخر بالقول ان هذه الصفقة تمت بجهود ومن دولة لدولة دون وجود اي وسيط او أي سمسرة، وقد قالها لاكثر من مرة. واذكر وتذكرون ان المرحوم دو غروسوفر عندما أتى مرة الى لبنان واجتمع برئيس الجمهورية آنذاك، ادلى في تصريحه بأنه بحث في موضوع التسلح، وبعدها اجتمع بقائد الجيش.
اذا المسؤولية يتحملها الطرف المفاوض، فمن كان؟
انه رئيس الجمهورية الاسبق الذي قال أنه كانما طرفا مفاوضا في هذه الصفقة، وتعرفون بدوركم انه عندما يفاوض رئيس جمهورية او وزير أو رئيس حكومة على صفقة ما مع دولة اجنبية فليس من الضروري أن يكون له معرفة بالسلاح لكي يبرم الصفقة، ولكن لزوما يجب أنا يصطحبه خبراء ومستشارون عسكريون.
واذا كان رئيس الجمهورية الاسبق لا يعرف ان المصنع المذكور قد اوقف صنع الطوافات في العام 1981، أفما كان يجب أن يستشير الذين كانوا معه ومن كان معه”.
لا يمكن لأي انسان منا أن يفترض ان رئيس الجمهورية، الذي فاخر كثيرا بأنه صاحب الصفقة، لم يكن يعرف إن المصنع قد توقف عن انتاج البوما العام 1981″.
ويقول: “لقد اشار قائد الجيش الى انه نفذ خطة جاءته، حتى ولو افترضنا ان الجانب الاميركي أو خبراء أميركيين هم من وضع الخطة، فهي لا تصبح قرارا الا بالموافقة عليها واقرارها من الجهات السياسية العليا المختصة فالذي قام بارسال الخطة الى قائد الجيش لم يكن الجانب الاميركي الذي يفترض أنه قد ارسلها الى المسؤولين السياسين، الى الدولة اللبنانية، الى الحكم اللبناني”.
ويقول واكيم: “في الحقيقة القصة بدأت في عهد جائع، ورجال وصلوا إلى مواقع السلطة لا هم لهم غير النهب فنهبوا، وخير ميدان للنهب هو ميدان السلاح، في غياب هيئات رقابة بما فيها مجلس النواب. فلنحاذر، لان شل مجلس النواب كمؤسسة رقابة هو الخطر الاكبر على النظام وعلى الديمقراطية. سامي مارون له أصدقاء كثر في رومانيا
وهو صديق “دو غرسوفر”. لفقت الصفقة، ذلك بأن الطائرة الرومانية لو كانت جديدة لكان ثمنها 850 الف دولار، واسمح لنفسي بأن اذيع هنا كلاما جرى بالصدفة بيني وبين أحد الدبلوماسيين الرومانيين وكان ذلك في العام 1986 أو 1987 لا اذكر بالضبط، وكانت القدائف، وكان الرصاص ينهمر ولا هم للشخص سوى التفكير في كيفية خلاصه من الموت، ويومها ذكر لي شيئا يتعلق بصفقة الطائرات الرومانية وقال لي مثلا لبنانيا: “الكنيسة القريبة لا تشفي”، لقد قلنا لكم بأن تأخذوا الطائرات الجديدة ثمن الواحدة 850 ألف دولار، فقمتم بأخذ القديمة عبر جلبها من رومانيا الى فرنسا ومن ثم الى لبنان، فدفعتم حوالي أربعة الى خمسة أضعاف. هذا ما قاله لي الديبلوماسي في السفارة الرومانية آنذاك”.
أما كيف اكتشفت أن “البوما” رومانية الصنع وليست فرنسية، فذلك حصل حينما كان الجيش ينظف إحدى الطوافات، فسقطت “الاتيكيت” النحاسية ليتبين على هيكل الطائرة أنها رومانية، والاتيكيت كان هدفها تغطية الحقيقة.
ولا ننسى أن نهاية ثمانينات القرن الماضي شهدت صفقة البراميل السامة وطمرها في أكثر من مكان، وقد بدأت هذه القضية بالانتشار في صيف عام 1986 حينما انفجر مستودع في احد الابنية السكنية في منطقة فرن الشباك وذهب ضحيته عشرات القتلى والمصابين بعاهات دائمة، وضرب يومها طوق امني في المنطقة من قبل المليشيا التي كانت مسيطرة، وفي 21 ايلول 1987 ظهرت الموجة الثانية للقضية، حين وصلت الباخرة “رادهست” من إيطاليا إلى الحوض الخامس في مرفأ بيروت محملة بنحو 16 ألف برميل من النفايات باحجام مختلفة قدرت زنتها بنحو 2400 طن،
ما هو مؤكد أن 15800 برميل و20 مستوعباً من النفايات السامة دخلت الحوض الخامس لمرفأ بيروت آتية من إيطاليا على متن الباخرة التشيكية “ردهوست” في 21 أيلول 1987. وكانت الحرب الأهلية (1975-1990) قد أضعفت الدولة ومؤسساتها، ما أدّى إلى سيطرة الميليشيات على المرافق العامة وإلى تقسيم مناطق النفوذ فيما بينها. وكانت “القوات اللبنانية” حينها تسيطر على ما عرف بـ”المناطق الشرقية” وعلى الحوض الخامس من المرفأ. فكانت هي المسؤولة عن مراقبة البضاعة التي تدخل وتغادر المرفأ. في المقابل، كانت البلاد الأوروبية تعاني من إنتاجها كميةً كبيرةً من النفايات الصناعية، فقررت التخلّص منها عبر بيعها لما يعرف بـ”مافيا النفايات”. وهذه المافيات تستغل البلاد التي تعاني من اضطرابات أمنية أو من فساد في الدولة لعقد اتفاقات تشمل بيع نفايات والتخلّص منها مقابل بدل مادي مرتفع. وهذا ما جرى حينها إذ اتفقت شركة “إيكولايف” الإيطالية على التخلّص من النفايات السامة والخطرة فعهدتها إلى شركة “جيلي واكس” المتخصصة في التخلص من المواد السامة. حاولت هذه الأخيرة في بادئ الأمر شحن هذه النفايات إلى فنزويلا ففشلت. ووقع الاختيار بعد ذلك على لبنان، وعليه، وصلت الشحنة إلى الحوض الخامس الواقع تحت سيطرة “الصندوق الوطني” في “القوات” وبموافقتها الكاملة، حسب جميع المصادر في حينه. وقد كشفت التحقيقات لاحقاً أن “القوات” تقاضت مبلغاً تراوح بين 22 و25 مليون دولار مقابل هذه الصفقة.
تأخّر الكشف عن وصول هذه الشحنة حوالي 9 أشهر وكان ذلك الوقت كافياً للتخلّص من البراميل، فتمّ رميها في العديد من المناطق، حيث تم دفنها وحتى حرقها في الجبال والوديان وعند منابع المياه والبحر بين تشرين الأول 1987 وربيع 1988.
وبالعودة إلى مجريات القضية، فقد تحرّكت “القوات” بعدما أثار فضح الملف الهلع بين المواطنين الذين بدأوا بحرق البراميل التي وجدوها مرمية في الأحراج وداخل البلدات. وفيما تُجمع المصادر على مسؤولية “القوات” في إدخال النفايات، تختلف بشأن مدى توّرط قائدها سمير جعجع في القضية، لاسيّما بعد أن حاول أن يوحي الأخير بأنه لم يكن على علم بالمسألة، وبأنه سيتابع الملف للتأكّد من التخلّص من النفايات.
انطلاقاً من ذلك، شنّ رئيس الحكومة انئذ، د. سليم الحص (أطال الله في عمره) هجوماً عنيفاً على “القوات” من دون أن يسمّيها محمّلاً إياها مسؤولية الكارثة. وقال: “من حقّنا أن نوّجه إصبع الإتهام نحو المتحكمين في الأرض بسلاحهم، أي نحو الذين ينتحلون صفة الفاعليات. أولئك الذين عبرت السموم مرافئهم وطرقاتهم لتستقر في مناطق نفوذهم، فمن البديهي أن نسألهم عما إذا كانوا على علم بما حصل، فإذا كانوا لا يدرون فالمصيبة عظيمة، وإذا كانوا يدرون فالمصيبة أعظم“. فيما حمّل وزير العدل انئذ ورئيس “حركة أمل” نبيه بري “القوات” ومعها “الكتائب” مسؤولية إتمام صفقة الموت.
هذا بعض غيض من فيض عهد الرئيس أمين الجميل، الذي ظل يراهن حتى اللحظة الأخيرة من عهده، أنه ربما يوافق الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد على التمديد له ولو لأشهر، فكان أن انتهى عهده في 22 ايلول بلا انتخاب رئيس بعد أن عقد مع الرئيس حافظ الأسد 11 قمة في خلال 15 شهراً، ليبدأ لبنان عهد الفراغ الرئاسي، وعهد مرحلة جديدة من الحروب والازمات التي انتهت باتفاق الطائف، لنكون مع مرحلة جديدة من الفساد والهدر وتراكم الدين العام وعجز الخزينة.
فإلى فساد ما بعد الطائف.
يتبع…
أحمد زين الدين
الثبات,أقلام الثبات,الخميس 03 تشرين الثاني , 2022