ما حصل في أفغانستان، ليست المرة الأولى التي تتخلى فيها الولايات المتحدة الأميركية عن اتباعها وحلفائها وتركهم لمصيرهم المشؤوم، فقد سبق لها أن تخلت عن اتباعها في فيتنام وكمبوديا، بطريقة مذلة ومهينة، بعد أن تمكن ثوار الفيتكونع في فيتنام من تحرير القسم الجنوبي من البلاد وتحرير العاصمة سايغون، رغم أن عديد الجيش الأميركي في تلك البلاد كان قد وصل إلى نصف مليون جندي، ومعهم أعتى السلاح وآخر ما كانت أنتجته مصانع الحرب الأميركية من البندقية إلى سلاح الطيران والصواريخ والقذائف الفتاكة المحرمة دولياً.
في 30 نيسان 1975، كان الهروب الأميركي الأخير من سايغون، ويومها اتهم الألعوبة الأميركية الرئيس الفيتنامي الجنوبي نغوين فان ثيو “الولايات المتحدة بالخيانة”، تماماً كما اتهم العميل انطوان لحد، الكيان العبري في أيار 2000، حين اندحاره من جنوب لبنان.
خلال الهروب الأميركي من فيتنام حاول كثير من العملاء اللحاق بأسيادهم، فكان الجنود الأميركيون يركلون بأقدامهم العملاء الذي حاولوا التعلق بالمروحيات الهاربة بجنود اليانكي.
عندنا في لبنان حصل ما يشبه ذلك في ثمانينيات القرن الماضي وفي العام 2000.
ففي ثمانينيات القرن الماضي صرخ أمين الجميل في العام 1983 من واشنطن ، بأن مدافعه سترتد إلى دمشق، مهدداً بالويل والتبور وعظائم الأمور، لكن “السيد” الأميركي كان في وارد آخر تماماً، بعد إسقاط اتفاقية الذل المتمثلة بـ”اتفاقية 17 آيار”، فطلبت واشنطن ود دمشق، بعد أن تمكن حافظ الأسد من تحطيم مؤامرة “جماعة الأخوان المسلمين”، فسارع أمين الجميل يطلب “غبرة رضا” الرئيس السوري الراحل، واندفع الجميل نحو دمشق ليعقد مع الأسد 11 لقاء قمة في خلال أقل من سنتين، محاولاً تمديد ولايته ولو سنة، لكن ولايته انتهت عام 1988 إلى غير رجعة، مخلفاً للمرة الأولى في تاريخ لبنان منذ عام 1926 فراغاً رئاسياً استمر حتى آواخر عام 1989.
وقبل أمين الجميل، فعلها الأميركيون مع كميل شمعون الذي تسبب بفعل تأييده لمشروع أيزنهاور وعزمه على تجديد ولايته، ودعوته الأسطول الأميركي السادس لاحتلال لبنان، بأزمة داخلية وحرب أهلية عام 1958، لكن الأميركيين امتثلوا لقرار الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر، بانتخاب الرئيس فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية والرئيس الشهيد رشيد كرامي رئيساً للحكومة، وفي التفاصيل انه في نهاية عهد شمعون، نصح الموفد الرئاسي الأميركي روبرت مورفي شمعون بأن لا يفكر في تجديد ولايته، حتى لا يقال أنه استعان بالأسطول السادس ليجدد لنفسه.
في ذاك اللقاء أعرب شمعون عن خيبة أمله من أصدقائه الغربيين وفي طليعتهم الأميركيين، وقال لمورفي: “إني أحصد ثمار موقفي معكم ضد الشيوعية، وها أنتم مع المعارضة ضدي” ورد مورفي بجواب قاطع: “لا تجديد، ونترك لك يا حضرة الرئيس أن تفكر، ويبدو لي بعد أن درست الموقف أن اللواء فؤاد شهاب هو أصلح المرشحين في هذه الفترة العصيبة التي يمر بها لبنان”.
وأثناء الحرب الأهلية (1975-1989) كشفت الولايات المتحدة عن أوراقها ماذا تريد للمسيحيين في لبنان منذ العام 1976 بما يشبه التخلي عن “الجبهة اللبنانية”.
وروى الرئيس الراحل سليمان فرنجية في لقاء لي معه في قصره في إهدن، أنه التقى الموفد الأميركي دين براون الذي أبدى أمامه استعداد السفن الأميركية المنتشرة في البحر لنقل المسيحيين في لبنان إلى أي مكان يريدونه، فصرخ الرئيس فرنجية في وجهه غاضباً، معلناً انتهاء الزيارة، وحين خرج براون همَّ فرنجية أكثر من مرتين لأن يرفسه على قفاه، لكنه تراجع ولم يتابع وداعه.
وبعدها أثر الرئيس فرنجية الإنسحاب من “الجبهة اللبنانية”، وكانت المجزرة “القواتية” التي ارتكبت بحق ابنه النائب طوني فرنجية وعائلته وأهالي إهدن.
وبعيداً عن لبنان فعلها الأميركيون مع ملك السعودية سعود بن عبد العزيز وتخلوا عنه، فالملك سعود استاء من وحدة مصر وسورية وسماها “الوحدة الوسخة”، ووافق على خطة أميركية لتنفيذ انقلاب في سورية، وضع خطتها روزفلت وباشر الملك سعود تنفيذها بحماقة، وقرر رصد مئة مليون جنيه استرليني في حينه لتنفيذها،
يدفع منها مقدماً عشرين مليوناً، والباقي بعد نجاح الانقلاب، وأكد الملك سعود أن “السفير الأميركي سيقدم اعترافه بالنظام الجديد فور إعلان الانقلاب وكذلك اعتراف كل الدول الصديقة للولايات المتحدة”، كشفت المؤامرة الدنيئة، وسحب جزء من الأموال المرصودة وسحب الشك الذي كان مدفوعاً لحامله ورقمه 52/85901 ، كما سحب بعد ذلك شيك بمبلغ 700 ألف إسترلينى بشيك رقم 58/85903، ثم شيك آخر بمبلغ 200 ألف جنيه إسترلينى برقم 59/85904، وحين سئل الوسيط أسعد إبراهيم عن بقية المبلغ قال هذه 2 مليون جنيه والباقى عندما يحدث شىء، ولم تكن الشيكات التى سلمها بـ2 مليون، وإنما بمليون و900 ألف فقط، وفهم من ذلك أن الوسيط اختصم لنفسه مئة ألف جنيه إسترلينى عمولة».
في الأول من تشرين الثاني 1964 أعلن مفتي السعودية محمد بن إبراهيم آل الشيخ خلع الملك سعود عن العرش لصالح ولي العهد فيصل بن عبد العزيز، وفي اليوم التالي بويع الأمير فيصل ملكاً من الأسرة الحاكمة، لكن الملك سعود رفض الامتثال للأمر، وقرر المواجهة، فحصل أن نفذت طائرة حربية أميركية من نوع “F5” غارة وهمية فوق القصر الملكي، ففهم سعود الرسالة وتنازل عن العرش، ولم يجد مكاناً يلجأ إليه سوى القاهرة وجمال عبد الناصر، كلاجئ سياسي.. وبعدها غادر إلى إيطاليا.
قد يكون ضرورياً التذكير أن الكاو بوي الأميركي يتخلى عن اتباعه وعملائه بسهولة، ويستعملهم كالمناديل الورقية، هكذا فعلها على سبيل المثال لا الحصر مع رئيس بنما مانويل نوربيغا، ومع عميله الجنرال رافائيل ليونيداس تروخيو الذي حكم الدومنيكان، وموبوتو سيس سوكو وشاه إيران محمد رضا بهلوي الذي رفض استقباله في واشنطن بعد هربه من إيران، وحسني مبارك، وزين العابدين بن علي، وغيرهم الكثير بمن فيهم أسامة بن لادن الذي كان يلقى كل الدعم والتأييد والتدريب من الولايات المتحدة ومخابراتها إبان الوجود السوفياتي في أفغانستان.
وحين احتاج الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى نصر ما، لتجديد ولايته الرئاسية، لم يجد غير بن لادن، فحطت فرقة كوماندوس في فيلته في باكستان وقتلته بسهولة وألقت بجثته في البحر.
بشكل عام من يتعامل مع الغول الرأسمالي الأميركي الجشع، لن يكون مصيره أو خاتمته كما يتمنى وبهذا نقدم نصيحه لما يسمى جمعيات “المجتمع المدني” وجمعيات ال “NGOS” أصحاب الإتصالات والمهمات السوداء مع سفارة عوكر، بأخذ العبر…
عودة إلى أفغانستان، فقد عادت الولايات المتحدة إلى نسج علاقات مع طالبان متخلية عن حلفائها واتباعها الذين زرعتهم في السلطة بعد غزوها البلاد عام 2001 وخاضت مع طالبان مفاوضات في الدوحة عام 2020 أفضت إلى الاتفاق:
1- انسحاب جميع القوات الأجنبية من أفغانستان في غضون 14 شهرا
2- تخفض الولايات المتحدة قواتها في أفغانستان إلى 8600 في غضون 135 يوما بدءا من تاريخ توقيع الاتفاق
3- تسحب الولايات المتحدة وحلفاؤها والتحالف جميع قواتهم من 5 قواعد عسكرية في غضون 135 يوما
4- إزالة العقوبات الأميركية عن أفراد طالبان بحلول 27 أغسطس/أب 2020
5- إطلاق سراح ما يصل إلى 5 آلاف سجين من طالبان، وما يصل إلى ألف من سجناء الطرف الآخر بحلول 10 مارس / آذار 2020
وقعت “طالبان” والولايات المتحدة، بالعاصمة القطرية الدوحة اتفاقا لإحلال السلام في أفغانستان في شباط 2020.
وبموجب الاتفاق، سحبت واشنطن جنودها تدريجيا من أفغانستان، مقابل ضمانات أمنية من “طالبان”..
شارك في حفل التوقيع الذي تم في عهد دونالد ترامب العشرات من وزراء خارجية، بينهم وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، وهو أمر لا يخفى عن لبيب.
وفي بيان الرئيس الأميركي جو بايدن عن انسحابه من أفغانستان
قال إن “مُهمتنا في أفغانستان لم تكن أبداً بناء الدولة، وإنما أن نركز على مكافحة الارهاب، ومنع الاعتداءات على الأراضي الأميركية”، مشيراً إلى أن “التهديد الإرهابي ضد الولايات المتحدة تراجَع”.
واعتبر الرئيس الأميركي أن “الولايات المتحدة أعطت الحكومة الأفغانية كل ما تحتاج إليه”، مضيفاً “منحنا الأفغان كل الفرص للدفاع عن مصيرهم، لكن إذا لم تَقُم أفغانستان بمقاومة طالبان الآن، فلا فرصة في ذلك بعد عام أو 5 أعوام”.
وأشار إلى أن “القادة السياسيين الأفغان استسلموا، وهربوا من البلاد، والجيش الأفغاني رفض القتال”، لافتاً إلى أن “الأحداث الجارية تُثبت أنه لا يمكن لقوة عسكرية أن تُفْضي إلى استقرار أفغانستان”.
مستر بايدن، نسألك عن داعش والأخوان المسلمين وقسد، نسألك عن الجرائم الأميركية في ليبيا وسورية والعراق… ودائماً وأبداً في فلسطين.
أحمد زين الدين
أقلام الثبات الخميس 19 آب , 2021