منذ عدة سنوات جاءني مؤلف قال: أنه يعد موسوعة عن كتاب وادباء البقاع، ويريد شيئاً عني، فلخصت له سيرتي، لكن لم أعرف شيئاً عن تلك الموسوعة، ومما جاء في تلك السيرة:
انا ابن فلاح بسيط، هاجر أبوه يعني جدي وهو طفل من مدينة جبيل إلى مقنة في قضاء بعلبك، وهناك استقر نهائياً، وانجب والدي وعمي وعمتي. كان والدي رحمه الله مثال لذاك العصامي المؤمن الذي لا يأكل قوته إلا إذا كان من تعبه وكده، أي حلال بحلال، ولأن الزراعة والفلاحة، كانت تتعطل في مواسم المطر والثلوج والعواصف، كان يحل في بيروت عاملاً كادحاً، بحيث يمكن القول أنه يكاد لا يوجد طريق دولية في لبنان ولم ترتو من عرق الوالد الذي كان يعمل على تفتيت الصخر والأحجار إلى حصى من أجل فلشها وتعبيدها بالإسفلت. أما في الصيف، وحين مواسم الحصاد كان يحل في القرية حاصداً وجامعاً القمح والعدس الذي كان يزرعه في موسمه.
في ظل هذا الواقع عشت وترعرعرت ورأيت أول أحلامي الجميلة على أكوام القمح على بيادر القرية في الليالي المقمرة، وظل الحلم يلازم طفولتي لعدة سنوات إلى أن انقطع الوالد عن أعمال الزراعة والفلاحة، واستقرت العائلة في ضواحي بيروت.
صورة الحلم، لم تغادرني في حياتي، ورسمته في صورتين في العام 1984، حتى لا أنسى شكله وطيفه وحضوره البديع، ورافقني في كثير من أسفاري، ومن خوفي على الصورتين قمت بتغليفهما فنياً في زيارة لي إلى إيطاليا، وهما ما تزالان ككنز في وثائقي وسجلاتي.
هذا في الشكل العام من حيث نشأتي وتكويني، أما في سيرتي، فأنا خرجت من القاع، بنيت نفسي ، يوماً يوماً، وحجراً حجراً إن جاز التعبير، وعملت منذ أول فتوتي في شتى الأعمال، في مراحل من عمري كنت أعمل نهاراً واتعلم ليلاً، وعملت في شتى الأعمال المتواضعة. فقد عملت بائع كعك، وبوظة، وبريوش، وبائع “كشة” وصبي فران وحمّال في المرفأ.
في المرفأ، لم يدم عملي طويلاً، إذ كيف يختار شيخ “العتالة” فتى نحيلاً طري العود لم يتجاوز عمره 16 عاماً، وامامه رجال أقوياء جسدياً، وبالتالي كنت أحظى يوماً بفرصة عمل وأكثر من ثلاثة أيام أعود خالي الوفاض، وبهذا لم تطل مدة عملي كحمال. في المرفأ تفتح وعيي على واقع طبقي مريع، إذا ما يكاد “شيخ العتالة” يختار انساناً حتى يتحول إلى مجرد رقم على قطعة معدنية، ويصير اسمه الرقم الذي اعطي له وتصير هويته القطعة المعدنية، ويتقاضى أجر يومه على أساس رقمه وليس اسمه. هذا الواقع لم يصرفني لحظة عن القراءة والمطالعة، إذ دائماً بناء على وصية الحلم على بيادر القرية، كان لدي كتاب أقراء به في لحظة فراغ أو راحة. كنت وأنا أعمل بائعاً متجولاً، أتابع قراءة كتاب اشتريته، خلال بضع دقائق ارتاح بها، وفي المرفأ كنت في اللحظات التي لا يوجد ما “أعتله” استغلها في متابعة القراءة.. وهكذا أطلق علي تسميات مختلفة في تلك المراحل بعضها كان احتراماً وتقديراً لي، وبعضها كان تهكماً، ومن هذه الألقاب على سبيل المثال لا الحصر “بائع الكعك المثقف”، “الكتاب العتال”، “كتاب يمشي على قدمين” وهلمّ جرا.
خلال هذه الفترة قرأت العديد من الكتب والروايات، تعرفت منها على الثائر العظيم الأول علي بن أبي طالب وعلى جبران خليل جبران ومخائيل نعيمة وتوفيق يوسف عواد وعمر فاخوري ومكسيم غوركي في رائعته “الأم”، وتولستوي “الحرب والسلام” كما قرأت سلسلة روايات سوفياتية منها: “ضمائر حية” و”العقب الحديدية”، كما انخرطت باكراً في العمل الوطني والثوري والمقاوم، وهذه مسألة لن أدخل في تفاصيلها، لأنني ما عملت إلا قناعتي، وما اعتقدت ومازلت أنه الطريق الصحيحة لراحة البشرية، وإن كان العديد من الرفاق والأصدقاء يلحون عليّ بتأريخ تجربتي التي يشاء البعض أن يصفها بالثرية والغنية، ولكني أرفض ذلك، لأنني ما تظاهرت وما كنت مقاوماً ومقاتلاً وأصبت وجرحت، إلا لأنني لدي قناعة ترسخت من تعب تجربتي، وتكوين وعيي ومعرفتي وثقافتي.
بعد نيلي شهادة البريفيه في العام 1967 كانت النقلة النوعية في مسيرة عمري، إذ تطور عملي فعملت سكرتيراً لمحامي أدهش كما قال لي يوماً من سعة معلوماتي، ورغم أن عملي معه لم يتجاوز خمسة أشهر، إلا أنني خلال شهر واحد صرت يده اليمنى، وتعرفت خلالها ولو نظرياً على القوانين، لدرجة أنه صار يكلفني أحياناً بوضع الخطوط الأولى لمرافعة له. أذكر أن ذلك المحامي منذ اليوم الأول لعملي معه، طلب مني أن أتعلم طباعة الدكتيلو، فأتقنتها في شهر واحد، وبينما كنت أطبع له مرة احدى دعاويه، قمت من ذاتي بتصحيحها فخذفت منها واضفت إليها، في نفس الوقت الذي طبعت له نسخة كما كتبها بنفسه، قمت بتسليمها إليه، وبقيت واقفاً أمامه، سائلاً: استاذ هل تقبل أن اقدم ملاحظات معينة، لعلها تفيد، فرحب بذلك، فسردت له ملاحظاتي، فوافقني تماماً، وبدأ بإجراء التعديلات.. وهنا فاجأته بنصي، الذي لم يلغ منه حرفاً، وزاد راتبي 25 ليرة.
في العام الدراسي 1968 – 1969، كنت قد بلغت الثاlمنةعشرة من عمري، وهنا قررت أن اسلك طريقاً عملياً مختلفاً، فبدأت مهنة التعليم، حيث مارست المهنة حتى العام 1974، في الوقت الذي كنت بدأت فيه العمل في الصحافة.. التي تفرغت لها بالكامل لاحقاً، فعلمت في مختلف الصحف والدوريات اللبنانية، كما كتبت وراسلت عدة صحف عربية، وشاركت في تغطية العديد من جبهات الحرب الأهلية 1975 – 1990 والعديد من المؤتمرات العربية، ولعل فرصة العمر، كانت حينما تناهى إليّ اندحار العدو الإسرائيلي في 23 أيار 2000، فاتجهت بسيارتي نحو الجنوب العظيم، وكنت أول صحافي يشهد بأم العين الحدث الأعظم في تاريخ الأمة منذ سقوط غرناطة عام 1492م.
أما من حيث مؤلفاتي، فإن أبرزها: صفحات من جياة الرئيس صبري حمادة 1995 تطور قانون الانتخاب في لبنان 1840 – 2000 رؤساء لبنان كيف وصلوا؟ 2001 لماذ الحرب في لبنان كل 15 عاماً 2007 .
الجدير بالملاحظة هنا أنني يومها لم أكن قد وضعت كتاب (إميل لحود يتذكر) كما أنني ساهمت في انجاز كتب عن سيرة شخصيات لم أضع إسمي عليها. وهناك عدة كتب أمل أن أتمكن من طبعها.
أما من حيث الكتابة الأدبية فلدي رواية ما تزال مخطوطة، وقصائد عدة لكني أنا متذوق للشعر أكثر، كما أني متذوق للفنون التشكيلية وأجيد قراءة اللوحات، وأهوى الموسيقى الكلاسيكية، واحب فيروز وزياد ونصري شمس الدين ووديع الصافي وملحم بركات وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ومحمد عبد المطلب والشيخ إمام وميراي ماثيو وكنت معبجاً بفرقة الأبا. لجهة نشاطي الثقافي والاجتماعي، فأنا عضو في نقابة محرري الصحافة اللبنانية عضو في اتحاد الكتاب اللبنانين،. وكنت في العام 1971 عضواً في رابطة الشباب اللبناني التي كان لها نشاطات شبابية هامة في حينه، واسهمت في العديد من النضالات الطلابية والشبابية، والتي من رحمها ولد اتحاد الشباب الديمقراطي.