شمعون ومعارضو بشارة الخوري والانكليز والأميركيون ونور السعيد
الرئيس الاستقلالي بشارة الخوري لم يسقطه تزوير انتخاب أيار 1947، ولا فساد شقيقه “السلطان” سليم، وبطانة السوء التي أحاطت به، وصار معظمها مع العهد الذي جاء بعد الخوري، وحتى “الجبهة الوطنية الاشتراكية” التي شهرت سيف النقمة على بشارة الخوري كانت متعددة الميول والاتجاهات والانتماءات، “ولم يكن يعجبها العجب ولا الصيام برجب”.
أدى بالرئيس الاستقلالي الأول إلى ما وصل إليه هو رفضه التحاق لبنان “بحلف الدفاع المشترك” لأن “الميثاق الوطني” غير المكتوب الذي نظم أسس الحكم في لبنان عام 1943، والذي يقوم على اتفاق المسيحيين والمسلمين الذين يتألف منهما الوطن اللبناني، وعلى انصهار نزعاتهما في عقيدة واحدة، فاستقلال لبنان التام الناجز يجب أن يتم من دون الاعتماد على حماية من الغرب، ولا التطلع إلى وحدة أو اتحاد مع الشرق، ويصف الرئيس بشارة الخوري هذا الميثاق: “هو عهد بين جميع اللبنانيين على اختلاف طبقاتهم وميولهم، وهو دعوة خالصة للتعاون بين الأقطار العربية ولبنان، لمصلحة الجميع وعلى قدم المساواة، تحقيقاً لروح العدل والإنصاف”.
وقد حدد بيان الحكومة الاستقلالية الأولى عام 1943 مبادئ الميثاق الوطني بـــ:
1ـ لبنان جمهورية مستقلة استقلالاً تاماً، غير مرتبط بأي دولة.
2ـ لبنان ذو وجه عربي ولغة عربية، وهو جزء من العالم العربي، ذو طابع خاص، غير أن لبنان على عروبته لا يسعه أن يقطع علاقاته الثقافية والروحية بالحضارة الغربية، التي ساعدته على بلوغ درجة من الرقي والتقدم يحسد عليها.
3ـ لبنان مدعو إلى التعاون مع جميع الدول العربية، ولأن يصبح عضواً من الأسرة العربية، التي اعترفت باستقلاله وكيانه، ضمن حدوده الحاضرة، وعلى لبنان في تعامله مع الدول العربية ألا ينحاز إلى فريق ضد آخر.
إذاً، كان من المفروض موافقة لبنان على الالتحاق مع مشروع “الدفاع المشترك”، مع تصاعد الضغوطات الاستعمارية على المنطقة بما فيها لبنان، إذ أنه في 25 أيار 1950 صدر البيان الثلاثي الأميركي ـ البريطاني ـ الفرنسي يؤكد اتفاق الدول الثلاث على التدخل المشترك في الشرق الأوسط بحجة المحافظة على الأوضاع وتأمين الاستقرار، وتزويد الدول العربية بالسلاح، شرط عدم استعماله ضد بعضها البعض، وبين هذه الدول بالطبع كانت “إسرائيل”.
“وتبع هذا البيان ظهور (الدفاع المشترك) الذي كان المطلوب من الدول العربية الانضمام له، ورفض الشيخ بشارة الانضمام إلى هذا الحلف، الأمر الذي أدى إلى خلاف مع السياسة البريطانية، ومن ثم إلى نشاط العملاء البريطانيين في تأليب الرأي العام اللبناني عليه، وبالتالي التمهيد لإسقاط عهده”.
لقد ظل الرئيس بشارة الخوري على الدوام يرفض ربط لبنان بأحلاف أجنبية لأنها تعارض روح الميثاق الوطني الذي كان أحد أهم أعمدة وفاق اللبنانيين، ومع انتصار ثورة 23 يوليو الناصرية في مصر 1952 ازدادت الضغوط الاستعمارية على المنطقة من جهة، وازداد صراع الدول الكبرى بين بعضها البعض من جهة أخرى لفرض سيطرتها، خصوصاً الصراع الأميركي ــ البريطاني، حيث أن واشنطن صارت ترمي للحلول محل النفوذ البريطاني، فيما بريطانيا تسعى لسد المنافذ بشتى الوسائل والسبل أمام الرياح الأميركية العاصفة، ويقول الرئيس صبري حمادة في هذا الصدد: “الشهادة لله، وقد أصبح الشيخ بشارة في ذمته تعالى، لقد أبدى صموداً عجيباً وترفعاً غريباً بوجه الاغراء والاغواء، ولم تلن شوكة معارضته ربط لبنان بمعاهدة كمعاهدة الدفاع المشترك مثلاً، وأي ارتباط من الارتباطات الأخرى، حتى بعد أن تحول الاغراء إلى تهديد وانقلب الاغواء منازلة دولة كبيرة كانت وما تزال قرصانة الضمائر والذمم”.
الضغوطات الخارجية وسلسلة من العوامل الداخلية المتناقضة والمتضادة التي تحالفت ضد الرئيس بشارة الخوري جعلته لا يكمل ولايته الثانية، وفي العام 1952، حينما كانت تطورات المنطقة نشير إلى الهجوم الواسع الذي تتعرض له من أجل زيادة تقسيمها بعد سايكس بيكو، ومن أجل السيطرة على ما تختزنه من ثروات ستكون الدم الذي يغذي اقتصاديات العالم والشريان الذي يضخ منه هذا الدم، وكان من أبرز تجلياتها قيام الكيان الصهيوني وتشريد الشعب الفلسطيني.. كان هناك أيضاً بعض الحياء، فالإنكليز الذين تدخلوا بقوة من أجل إسقاط بشارة الخوري، كانوا يتحركون في الخفاء ومن وراء الستارة، وكانت سفارتهم في بيروت تتدخل في الصغيرة والكبيرة، وكان المستشار الشرقي في السفارة مارون عرب في تلك الفترة يطلب هذا ويضغط على ذلك من أجل مرشحهم كميل شمعون.
وذهب التدخل البريطاني في الشؤون الداخلية لكن بشكل خفي، حداً جعل الرئيس الاستقلالي الأول يطلق طرفة صارت حديث اللبنانيين، وجسدها الفنان الراحل شوشو عنواناً لإحدى مسرحياته «الحق على الطليان»، وذلك كلما كان يُسأل من يتحمل مسؤولية ما وصل إليه، وأدى إلى استقالتك؟.
آنئذ استنجد الإنكليز برجلهم الآخر في سوريا أديب الشيشكلي فلعب اللعبة حتى نهايتها، بالضغط، وجاء كميل شمعون بدلاً من حميد فرنجية الذي آثر أن ينسحب من السباق الرئاسي «حتى لا يخجل من نفسه» كما قال نجيب سرسق قبل 25 عاماً.
وفي عهد شمعون دخلت كل المنافسات الدولية إلى الأرض اللبنانية، وصار الدفع والقبض علناً، لكن ضمن نطاق ضيق، حتى الدول الكبرى كانت تشتري الذمم بالسر، ومثال على ذلك ما يرويه إسكندر رياشي، عن أن الأميركيين قرروا شراء الذمم للتجديد لشمعون، فخصصوا عشرة ملايين دولار لهذه الغاية.
لكن أحداً لم يعرف، كما يشير إسكندر رياشي: “أن الأميركيين هم الذين يقومون بالبيع والشراء، لأن الجميع تصوروا أن العراق هو من يقوم بهذه المهمة، لكن السفير العراقي في بيروت كشفها من دون أن يدري وينتبه، حينما كان يعتذر عند مقام عال قريب جداً من شمعون، ويقول مجيباً رداً على سؤال: «كان من الواجب أن يصل اللازم هذا الأسبوع، ولكن الأميركيين تأخروا في دفع باقي العشرة ملايين دولار”. (رؤساء لبنان كما عرفتكم ــ إسكندر رياشي ــ ص386)
كان الأميركيون كما يؤكد إسكندر رياشي: “يريدون أن يبرؤوا أنفسهم من تهمة التجديد لشمعون، ولهذا أرادوا صبغ هذه العشرة ملايين دولار صباغاً عربياً محضاً، فيساعد في الحقيقة العراق في التجديد بمال يلبس رداءً عراقياً، في الوقت الذي كان فيه مالاً أميركياً ألفاً بالألف”. (رؤساء لبنان كما عرفتكم ــ إسكندر رياشي ــ ص386).
الثبات – أقلام الثبات – أحمد زين الدين
الأربعاء 19 تموز , 2023