نظام لا يوصل إلَّا إلى السوق السوداء (2) – الراصد العربي

نظام لا يوصل إلَّا إلى السوق السوداء (2)

إذا كان الجميع في لبنان، مسلِّم بأن النظام السياسي هو مولد دائم للازمات والفتن.. وحتى للحروب الأهلية، فإن الأزمات هذه المرة تطال كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لتحول البلد إلى أسوأ “جمهورية موز” في الكرة الأرضية.

ومنذ عصف الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990) ومن ثم مرحلة الطائف، أخذ وجه البلد يتجه نزولاً نحو الحضيض، ونستعير من الوزير الراحل هنري إده (1924-2010) ما ذكره في مقدمة كتابه “المال إن حكم” صورة عن الحقيقة المرة، حيث يقول: “حصل ذلك منذ نصف قرن على وجه التقريب. إنني، بعد الفراغ من إلقاء الدرس الأول في [مادة] العمارة، في مدرسة الهندسة الفرنسية، ومغادرة الطلاب للمُدرج، وانتهائي من توضيب أوراقي، لمحت الموظف المكلف في أعمال الصيانة يدخل حاملاً بيديه المكانس والخرق. لقد عرفتُه يوم كنت أدْرُس على هذه المقاعد نفسها، وتذكر، بسرور، مشيته اللطيفة العرجاء التي ألِفْتها، ومثابرته على عمله، أسرعت لتحيته وسؤاله عن أخبار عائلته وأولاده، فأشرق وجهه وقال: “لقد رأيت للتو ابني البكر، كان جالساً هنا أمامك”. ولأن ابنه كان الأول في دفعته، فقد تخرّج من المدرسة الوطنية للجسور والطرقات في باريس (يون أي شوسيه) وأمّن لنفسه مستقبلاً مهنياً لامعاً، وأصبح أخوه التالي هو الآخر معمارياً ممتازاً، وأذكر أنني في ذلك اليوم أحسست أنني فخور جداً ببلدي.

وبعد خمسة وعشرين عاماً، وبصفتي نقيباً للمهندسين، كان عليّ أن أدرس طلب انتساب إلى النقابة ومزاولة المهنة، مرفقاً بدبلوم ممنوح من جامعة يوغسلافية معترف بها، وبسبب ما ساورني من شكوك في صلاح هذا الدبلوم، طلبت إلى أحد مستشاري سفارة بلغراد في بيروت، أن يتأكد في حضوري من السيرة الجامعية لمواطني الشاب ومن مستواه اللغوي، فاتضح على الفور أن الوثيقة المعروضة قد دُبرت بطريقة غير شرعية، فرُفض الطلب، لكن ذلك لم يمنع واحداً من النقباء الذي خَلَفوني من أن يصادق على الطلب دون أن يرف له جفن، لأنه على الأرجح، كان يستشرف أن صاحبه سيكون ذات يوم واحداً من “ممثلي الأمة” الذين، هم أيضاً، لم يتردد بعضهم في شراء ألقابهم أو انتخاباتهم، منذ ذلك الحين أيقنت أن وجه بلدي بدأ يتغير”.

مع دخول البلد الصغير في الحرب الأهلية بدأت تصغر الشعارات الكبرى، لنصل إلى حروب الأزقة والزواريب، وفرض الخوات والسيطرة على المرافئ والشواطئ، فكنز زعماء الميلشيات الثروات، والشركات، والمذهبية والطائفية، لندخل بعد الاجتياح “الاسرائيلي” للبنان في صيف 1982 مرحلة جديدة، وكانت بداية حكم أمين الجميل، الذي قرر بعد حرب الجبل أن يعيد تجهيز الجيش بالطوافات والدبابات والمدافع والذخائر من مختلف المصادر. بل تم شراء طوافات يفترض أنها فرنسية.. لكن تبين إنها ركّبت وأعيد تأهيلها في رومانيا، كل هذه المشتريات البالغة مئات الملايين من الدولارات، وقد جرى حديث واسع عن التخمينات بصدد العمولة المدفوعة والمستفيدين منها، لكن العارفين بمثل هذه “الأسواق” متفقون على تقدير المبلغ بأكثر من مئتي مليون دولار، دُفعت نقداً وسُحبت من احتياط مصرف لبنان، فبدأ تدهور سعر صرف الليرة بالتسارع، ثم تابع تدهوره.

وبعد تسمية تمرز على رأس شركة إنترا، وهي أغنى المجموعات وأقواها في البلد، اتخذ النهب المنظم أبعاداً هائلة، وحُوِّل نتاجه بكثافة وهُرِّب إلى الخارج بعد حسم المبالغ الموزعة محلياً وفق “تدبير” يفترض أن يؤمن له التغطية، وهنا يقدر الهامش الذي تركه تمرز بمئتي مليون دولار، ويقال أن المستفيدين من سخائه نجحوا في صرف نظر الأنتربول، المكلف بتوقيفه، عن هذه المهمة.

نسوق ذلك كمثال ليس إلّا، للوصول إلى ما بعد الطائف، ونظام السوق السوداء.

يتبع … .

أحمد زين الدين

الثبات,أقلام الثبات ,الثلاثاء 31 آب , 2021