نظام لا يوصل إلَّا إلى السوق السوداء (5) – الراصد العربي

نظام لا يوصل إلَّا إلى السوق السوداء (5)

يروي الزميل سمير صنبر في كتابه: “عالم من ورق” عندما نزل المارينز على شواطئ بيروت صيف 1958، وصلت رسالة عاجلة إلى ادميرال الأسطول السادس من قائد الجيش اللبناني اللواء فؤاد شهاب بطلب أسرع لقاء ممكن تجنباً لسفك الدماء.

فحصل اللقاء عند زاوية “الايدن روك” في أخر الرملة البيضاء، حضر اللقاء ثلاثة ضباط وشهده صحافي ناشئ، قال الجنرال بكل هدوء وحزم مامعناه: “نحن، انت وأنا عسكر، لعلنا نتفاهم. أنا قائد جيش لبنان المستقل، واجباتي حماية حدود الوطن وكرامته وسيادته، أقول لك وبكل مودة للدولة الصديقة الولايات المتحدة الاميركية مع التقدير الواعي لقدرتها العسكرية، أنني سأكون وأركاني الضباط على استعداد للمواجهة الخاسرة بالطبع دفاعاً عن مواقعنا”.

فوجئ الأدميرال الأميركي، وأخذ يتطلع حوله مستغرباً ومستمعاً للجنرال الذي استمر يقول: “إذا كان مطلوب الأمن والنظام فنحن نتكفل بذلك، أما إذا كان الهدف الحقيقي مواجهة ثورة العراق، فإن كتاب الجغرافيا سيرشدكم إلى أماكن أقرب، وإذا كان الغرض القضاء على الخطر الشيوعي، فكما تلاحظ ليس هنا قوى شيوعية تحاول الاستيلاء على الحكم”.

أخذ الأدميرال يحدق إلى وجه الجنرال الذي استمر يتنفس بهدوء “إذا أردتم المساعدة فالأفضل أن ترسلوا مبعوثاً مدنياً يستكشف الوضع ويتفاهم مع السياسيين” ثم أضاف بابتسامة باهتة: “أكلة الجبنة “الفروماجيست” عندنا مستعدون دائماً للتفهم والتفاهم”.

وصف الرئيس فؤاد شهاب للسياسيين بـ”أكلة الجبنة” يستمر ويتواصل، ويبدو أنه بعد اتفاق الطائف ازداد طمعاً وشراسة، إذلم تكتف الطبقة السياسية التي تحكمت بالبلاد في مرحلة الطائف بتجاهل البنود الإصلاحية القليلة التي وردت في وثيقة المصيف السعودي، كحال تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية بعد أول مجلس نيابي منتخب على أساس المناصفة، واجتماع مجلس الوزراء في مقر خاص بالمجلس (باستثناء فترة ولاية الرئيس إميل لحود)، وإلغاء طائفية الوظيفة ما عد الفئة الأولى وما يوازيها، إضافة إلى عدم تنفيذ اللامركزية الإدارية، والانماء المتوازن وهلم جرا.

منذ بداية مسيرة الطائف كان نوع من الاتفاق على إعادة تقاسم النفوذ الخارجي في لبنان بين الولايات المتحدة وسورية بشكل رئيسي، مع الاعتراف أو التسليم بنفوذ محدود لجهات خارجية أخرى كفرنسا والسعودية وإيران.. وحتى اسرائيل.

وجرى تجسيد النفوذ الخارجي من خلال الدور المعطى للطوائف السياسية في التركيبة الداخلية للسلطة، وبالتالي فإن السنوات الثلاثين الماضية أطلقت غول الطائفية والمذهبية من عقاله، وبهذا صارت المناصب والوظائف والمراكز، مناصب ملية لا يجوز المس بها، مهما كانت الارتكابات.

في هذه الفترة، شهد التعليم في لبنان تدهوراً كان قد بدأ باكراً منذ العام 1971 في عهد وزير التربية الوطنية والفنون الجميلة غسان التويني، لانه في غمرة تصفية الحسابات مع الإرث الشهابي، كان هناك نوع من الصراع بين “الفرنكفوني” و”الأنغلوفوني”، وبالتالي بدأت خطة إحداث تغيرات جدية في إعداد المعلمين والبحث التربوي والإحصاءات والتخطيط.

وهكذا تم إلغاء دور المعلمين التي منذ أن أنشئت في عام 1931 وحتى تاريخ الإلغاء، انتجت أهم كادر تعليمي في المنطقة والتي تميزت بدخول واسع للمرأة في سلك العملية التربوية، بحيث بلغت نسبة الأناث في العام (1966 – 1967) نحو 43 بالمئة من عدد المعلمين في لبنان، ومنذ العام الدراسي 1971 – 1972 بدأت سياسة التعاقد مع حملة شهادة الثانوية العامة.

مع اندلاع الحرب الأهلية (1975 – 1990) حدث خلل كبير في توزيع المعلمين في المناطق التي يعملون فيها، بسبب الانقسام الداخلي وبحجة تردي الأوضاع الأمنية، مما خلق فراغاً كبيراً في عدد كبير من المدارس، وراكم في إعداد المعلمين في مدارس أخرى، وانتشرت بشكل واسع عملية التعاقد التي صارت تقوم على:
– التعاقد مع معلمين قاطنين في محيط المدارس.
– الولاء السياسي، بمعنى حصول التعاقد على طريق القوى السياسية الفاعلة في هذه المنطقة أو تلك، أي المليشيات وقوى الحرب الفاعلة، والذي تكرس في مسيرة الطائف، بتعاقد المحظيين لدى السياسيين.

أما الجامعة اللبنانية، التي جرى تفريعها منذ العام 1977 بقرار من وزير التربية كميل شمعون، بذريعة ظروف الحرب، فقد كان في حقيقته شرذمة للحركة الطلابية وللجسم التعليمي، والذي توسع في مرحلة “السلام الأهلي” إلى مزيد من التفريع، الذي هو في حقيقته تشتيت للجامعة الوطنية بطلابها وأساتذتها وكفاءاتها، وإن كان العنوان لهذا التقسيم، توفير التعليم الجامعي لكل المناطق ولكل اللبنانيين، لكنه في حقيقته، منع الاختلاط بين شباب وطلاب لبنان، وتقسيم للجسم التعليمي في جامعة الوطن.

وترافق ذلك مع اتساع تأسيس المدارس من قبل الطوائف والأحزاب في لبنان، كما تم الترخيص للعديد من الجامعات الخاصة، بعضها يتبع للمذاهب أو لشخصيات، علماً أن عدداً من الجامعات الخاصة المرخصة لا يرقى إلى مستوى أكاديمي رفيع، كما يفترض التعليم العالي.

حتى خدمة العلم التي أعيد تطبيقها في العام 1993، وهي تجربة هامة على المستوى الوطني، حيث تعاقب بموجبها آلاف المجندين على قطع الجيش ووحداته، فكانت محطة فريدة في حياة كل منهم، إذ تعرفوا إلى حياة مختلفة رائدها النظام والانضباط، وحظوا بفرصة بناء صداقات متينة دامت حتى ما بعد نهاية الخدمة. وفيما ترك البعض بصماتٍ واضحة داخل المؤسسة العسكرية، فقد حمل معظمهم قيمًا ومبادىء ما زالت تحكم قراراتهم وتصرفاتهم حتى اليوم.

من خلال خدمة العلم، أُتيح للشبان القادمين من مختلف المناطق والانتماءات والطبقــات الانصهار في بوتقــة واحدة، واختبار مشاعر الألفة والأخوّة التي يولّدها العيش ضمن الخندق الواحد…

في الرابع من شباط ٢٠٠٥، صدر القانون رقم ٦٦٥ الذي ينص على إلغاء خدمة العلم بصورةٍ نهائية وبعد مرور سنتين على نشر هذا القانون في الجريدة الرسمية، توقف تطويع شبان لخدمة العلم في العام 2007. لقد حققت تجربة خدمة العلم   أهم أهدافها وهو الانصهار الوطني بين مختلف شرائح المجتمع اللبناني، من خلال تعزيز الروح الوطنية وإلغاء الفوارق الطبقية والمذهبية والسياسية بين المجندين، بالإضافة إلى تغليـب فكرة الانتمـاء الوطنـي والقـومي على الانتمـاءات الطائفيـة والمذهبيـة والحزبيـة الضيقـة.

إلى كل ذلك، فقد شهدت مرحلة ما بعد الطائف، تشتيت الحركة النقابية، وخلف نقابات جديدة، وسهلت السيطرة الكاملة لتحالف الطبقة السياسية على الحركة النقابية وتقاسم الهيئات النقابية.

حتى الانتخابات النيابية فإنها تميزت بخرق دستوري فاضح، لأنها لم تساو بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات لا على مستوى الناخبين ولا على مستوى المرشحين، وفيها خرق فاضح للمادة السابعة من الدستور التي تقول: “كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم”. وعليه شهدنا منذ العام 1992 حتى الآن ستة دورات انتخابية، جرت كل دورة وفق قانون مختلف كان يراعي مصالح الزعماء السياسيين والطوائفيين، مما أسهم بخلق شرخ بين المواطنين واتساع المذهبية، وبالتالي فالانتخابات النيابية لم تشكل عاملاً لتطوير الحياة السياسية، بل على العكس كانت تساهم في زيادة الهيمنة للطبقة السياسية وجشعها، وزيادة الانقسام الوطني أيضاً، مقابل زيادة الثروة لدى الطبقة السياسية.

بعد اللوحات السابقة التي تم عرضها، كان نمو مثير لما يسمى جميعات “المجتمع المدني” التي توسع تفريخها كالفطر مع بداية الأحداث السورية، وتوسعت وتعددت بشكل مثير بعد 17 تشرين الأول 2019.

وهذا لنا عودة إليه في الحلقة المقبلة.

الثبات – أقلام الثبات – أحمد زين الدين

الإثنين 27 أيلول , 2021